وعند ذلك : فتجد من اللذة والنعيم ما لا كانت تجده حالة المقارنة للبدن. وهذا الالتذاذ لا يتقاصر عما يجده النائم من اللذة حالة منامه فإنه قد يتضاعف على ما يجده فى حالة يقظته لقلة الشواغل (١).
الحالة الرابعة : أن لا يكون قد حصل لها شيء من كمالها وهى مع ذلك منغمسة فى الرذائل ، منهمكة فى الشهوات البهيمية ، بحيث ترسخت فيها صورها ، واشتدت القوة النزوعية إليها ، فعند مقارنة البدن ، وزوال العائق تحس بما فاتها من كمالها ، وتتألم بمفارقته فيحصل لها بسبب ذلك ، وبسبب ما استقر من هيئات الرذائل الحادثة لها ، عذاب وألم عظيم على نحو ما يحصل للنفس الكاملة الذكية من اللذة والنعيم ؛ بل أشد عذابا من هذا العذاب من كانت نفسه مع ذلك قد أكبت على اعتقادات فاسدة ، وركنت إلى نقيض الحق وجحدت الرأى الصدق ، فحالها كحال من يرجح لفساد مزاجه الأشياء الكريهة ، على الأشياء المستلذة.
فإذا زال عنه العائق والمانع حصل له التألم بالمستكره ، ومفارقة المستلذ ؛ بل أسوأ حالا من هذه الحال ، حال من كان مع اشتغاله بالرذائل ، قد طالع شيئا من المبادئ الموصلة إلى المعلومات النظرية ، واشتد شوقه إليها ، ثم تركها ، واشتغل بما سواها من الرذائل ؛ فإن تألمه بعد المفارقة يكون أشد ؛ لأن الشوق إلى المعشوق فى حق من عرف مباديه ، وتنبه له يكون أشد ممن لم يحصل له ذلك ، وحسرته على فواته تكون أعظم. كمن حصلت له مبادئ شهوة الجماع أو الأكل ، ثم منع منه ؛ فإن تألمه يكون أشد من تألمه قبل ذلك.
ولا يبعد أن تكون أيضا هذه الأنفس الجاهلة ، الفاجرة ، بعد المفارقة تتصل ببعض الأجرام الفلكية ؛ فتتخيل به صور ما كانت تسمعه من النار والأغلال ، وغير ذلك مما كانت تتواعد به على الأفعال القبيحة ؛ فيحصل لها بسببه من الألم ، والعذاب ما لا يقاس به / غيره من أنواع العذاب.
هذا كله إن كانت النفس الناطقة قد استعدت لقبول كمالها ، وتهيأت له.
__________________
(١) انظر : تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ثم قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص ٢٧١.