وكل ذلك فمضاد ومانع يمنعها من تمام الالتذاذ بحصول كمالها. فإذا زال ذلك المانع ، حصلت اللذة التامة ، والسعادة الدائمة التى لا يشاكلها شيء من أنواع الملاذ فيكون حالها بالنسبة إلى اللذتين كنسبة اللذة الحاصلة بأكل الشيء الحلو للمريض بالنسبة إلى لذة أكله بعد الصحة ، وزوال المانع.
وهذه اللذة العظيمة وإن لم يدركها فى حالة مقارنة البدن على ما هى عليه ولا يتشوقها غاية التشويق ؛ لكونها مشغولة بعوائق البدن ؛ لكنا نقطع بوجودها فحالنا بالنسبة إليها كحال الأكمه (١) بالنسبة إلى الالتذاذ برؤية الصور الجملية ، فإنه يقطع بها وإن لم يكن حاله فى التشوّق إليها كحال من عرفها بالنظر إليها وكحال عنين بالنسبة إلى لذة الجماع ؛ لكن هذه اللذة العظيمة إنما هى لمن استكملت نفسه بالعلوم ، وحصلت لها كمالاتها فى الدنيا (٢) ، وكانت متجردة عن الأمور الدنيوية.
الحالة الثانية : أن تكون قد حصلت ما لها من الكمالات فى الدنيا ؛ لكنها مع ذلك ظالمة ، فاجرة ، مشتغلة بالرزائل ، والشهوات البهيمية ، فبعد المفارقة / / وإن حصلت لها اللذة بما لها من كمالها ، فما استقر فيها من صور تلك الأمور الدنيوية ، يجذبها إلى الملأ الأسفل ، وما حصل فى جوهرها من الكمالات ، يجذبها إلى الملأ الأعلى ، فيحصل لها بسبب هذا التجاذب والتضاد ، ألم عظيم ؛ لكنه لا يدوم ؛ لكون النفس كاملة فى جوهرها وأن تلك الأمور الأخر عارضة ، والعارض قد يزول / على طول الزمان ، وعلى حسب رسوخ تلك الهيئات العارضة فى النفس يكون بعد زوال هذا العذاب والألم ، وما مثل هذه النفس تسمى المؤمنة الفاسقة (٣).
الحالة الثالثة : أن لا تكون النفس قد حصل لها شيء من الكمالات ؛ لكنها مع ذلك زكية طاهرة مشتغلة عن الرذائل ، والشهوات ، بالنسك والعبادات : كأنفس الزهاد والصلحاء من العامة ؛ فغير بعيد أن تنتقل نفوسهم بعد المفارقة إلى جرم فلكى يتخيل به صور ما كانت تسمعه فى دار الدنيا من أنواع الملاذ من المأكولات ، والمشروبات ، والمنكوحات على نحو ما كانت تتخيل بالحواس الباطنة حالة المقارنة.
__________________
(١) قارن ما ذكره الآمدي عن الأكمه ، والعنين بما ذكره ابن سينا فى الإشارات ٣ / ٧٦٢ ، والنجاة ص ٢٩٢. وبما ذكره الغزالى فى معارج القدس ص ١٢٦ وما بعدها والمقصد الأسنى ص ٢٦.
(٢) قارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٦٩ ، وبما ورد فى تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٨٣.
/ / أول ل ١١٦ / ب.
(٣) راجع ما ورد فى تهافت الفلاسفة ص ٢٨٦ ، ومعارج القدس للإمام الغزالى ص ١٣٢ ، وقارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٧٠.