ثم قالوا : لا شك أن سعادة كل شيء ، ولذته إنما هو بحصول ما له من الكمالات الممكنة له ، وذلك كحصول الإبصار للقوة الباصرة ، والسمع للقوة السامعة ، وكذلك فى كل قوة بحسبها ، وكذلك شقاوة كل شيء وتألمه ؛ إنما هو بعدم ما له من الكمالات الممكنة له.
فعلى هذا سعادة النفس الناطقة إنما هو فيما يحصل لها [الكمالات الممكنة لها] (١) ، وكمالها الخاص بها ، وهو مصيرها ، عالما عقليا منطبعا فيها صورة المعقولات ، وكذلك شقاوتها ، وتألبها : إنما هو بانتفاء كمالاتها عنها وعندئذ فالنفس الناطقة بعد مفارقة بدنها إما أن تكون قد استعدت لقبول كمالها أو لم تستعد. فإن كانت قد استعدت لكمالها وتنبهت له ومالت إليه باشراف العقل الفعال عليها ؛ فلها أحوال أربعة.
الحالة الأولى : أن تكون قد حصلت شيئا من كمالاتها بالبحث عنه والتفكر فيه (٢) وانسلخت عن عالم الضلال ، وتركت الاشتغال بالرزائل ، والاهتمام بالبدن وعلائقه ؛ فقد سعدت وحصلت لها اللذة ، والنعيم / الدائم.
وعلى حسب زيادة حصول الكمال يكون زيادة الالتذاذ. وليس ما يحصل للنفس من اللذة بحصول كمالها ، كالتذاذ البهائم ، والحيوانات بمطاعمها ومشاربها (٣). فإن كان الالتذاذ بالشيء ، وزيادته على حسب كمال الملتذ به وبهائه ، وقوة الإدراك له ، ودوامه.
ولا يخفى أن كمال النفس ، بالنسبة إلى سائر كمالات باقى القوى أشرف وأجلّ ، وأن إدراك النفس لما تدركه أعظم وأشدّ من إدراك غيرها لكماله من حيث إن إدراك ، النفس للماهية بخلاف إدراك غيرها من القوى.
فإذن التذاذها أشد ، وسعادتها أكمل. ولا خفاء بأن ما يحصل لها من الالتذاذ بكمالها قبل مفارقة البدن بالنسبة إلى ما يحصل لها بعد مفارقته كنسبة الالتذاذ برائحة المطعوم إلى لذة آكله ، وذلك قدر يسير وإنما كان كذلك من حيث إن النفس قبل المفارقة مشغولة بالبدن وعلائقه ، والانغماس فى الشهوات والرذائل.
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) (والتفكر فيه) ساقط من ب.
(٣) قارن بما ذكره ابن سينا فى الإشارات ٣ / ٧٤٩ وما بعدها وبما ذكره الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص ٢٨٣ وما بعدها وفى معارج القدس ص ١٢٧.