مدبّرا غير مدبّر ، ويرى أثرا ـ بأبين شواهد التأثير ـ من مؤثّر ، فلا بد ببت اليقين من رازق ما يرى من الأرزاق ، ومدبّر ما يعاين من أثر التدبير في السماوات والآفاق ، ومالك ما يرى مملوكا غير مالك من السمع والأبصار ، ومخرج الحي من الميت والميت من الحي بمواقيت وأقدار ، ولا بد من مدبّر الأمر الأعم الكلي ، ولن يوجد ذلك (١) إلا الله الأعلى فوق كل عليّ.
ومن ذلك أيضا فقوله تبارك وتعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)) [الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩]. فالله سبحانه هو الخالق ونحن الممنون ، ليس لنا في ذلك غير إمناء المني من صنع ، ولا نقدر بعده لما قدّر بيننا من الموت على منع ، فتقدير صنعنا كله وتدبيره ، وتبديل خلقنا إن شاء خالقنا وتغييره ، إلى من تولاه دوننا ، وكان منه لا منا ، كما قال سبحانه : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢)) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦٢]. فقرر سبحانه بمعلوم غير مجهول ، وذكّر بما لا ينكره سليم العقول ، من نشأة الصنع الأولى ، فتبارك الله العلي الأعلى.
ثمّ قال سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤) [الواقعة : ٦٣ ـ ٦٤]. فالله هو الزارع ونحن الحارثون. ليس لنا في الزرع سوى حرثه من حيلة موجودة ولا معدومة ، ولا نقدر بعد الحرث له على إنشاء منه لسنبلة محمودة ولا مذمومة ، وقدرتنا فإنما هي على الحرث والاعتمال ، وعلى خلافهما من الترك والاغفال ، وكذلك فلله من القدرة بعد على إبطال الزرع وبلائه ، مثل الذي كان له من القدرة قبل على تثميره وإنمائه ، ولا يقدر على أمر إلا من يقدر على خلافه ، وعلى فعل كل ما كان من نوعه وأصنافه ، فمن لم يكن كذلك ، وتصح صفته بذلك ، كان بريا من القدرة عليه ، وكان العجز في ذلك منسوبا إليه ، كما قال سبحانه ، في الزرع بعد إكماله : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)(٦٧) [الواقعة : ٦٥ ـ ٦٧]. وكذلك إعذاب الماء ، وما
__________________
(١) سقط من (أ) : ذلك.