مفطور ، لا يمتنع من القهر والذلة والخشوع ، ولا عن ما أبان الله فيه من أثر صنعة كل مصنوع ، لا ينظر منه ناظر إلى طرف ، ولا يلتفت إلى كنف (١) ، إلّا وجد أثر الصنع فيه واضحا بيّنا ، ووجده بصنع الله له مخبرا مبيّنا.
ولما ثبت اضطرارا بما لا تدفعه العقول مما لا مرية فيه ، وبما جميع العقول كلها مجمعة عليه ، أن لكل ما يرى أو يسمع أو يشم ، أو يذاق أو يلمس أو يتخيل فيتوهم ، مدبرا لا يخفى تدبيره ، ومؤثّرا بيّنا ـ لكل ذي (٢) عقل ـ تأثيره ، ثبت وجود (٣) خلاف المدبّر مدبّرا غير مدبّر ، ووجود (٤) خلاف المؤثّر مؤثّرا غير مؤثّر ، لا يمكن غير ذلك علما ، ولا يتخيل خلاف لذلك فهما ، لأنّه لما كان ما وجد من الأشياء كلها مدبّرا وصنعا ، وخلقا مفتطرا بدعا (٥) ، احتيج إلى علم مدبره ومفتطره ، وثبت يقينا وجود المفتطر المدبّر بما وجد من تدبيره ومفتطره ، فلا بد كيفما كان النظر في ذلك فارتفع أو لم يرتفع ، من أن يثبت مدبر صانع لم يدبّر ولم يصنع ، وذلك فما لا يوجد أبدا غير الله جل ثناؤه ، وتقدست بكل بركة أسماؤه ، فهو الله الصانع غير المصنوع ، والأول المبتدع غير المبدوع.
ولما كان ـ كل عزيز من ذلّ ، إنما يعز في بعض لا في كل ، كان العز كلا وبعضا ، ولم يوجد العز كله لواحد محضا ـ أيقنّا أن بعض العز مملوك لمليك ، وأيقنا أن كل العز لمالك غير ذي شريك ، لأنه لو كان له فيه شريك ، أو له معه مليك ، لكان إنما له ، بعضه لا كله ، فرجعنا إلى الخطة الأولى ، وعاد العز ذلا ، إذ كان مشاركا فيه ، لأنه إنما له أحد شطريه ، وذلك يرده إلى أن يكون عزيزا ذليلا ، وأن يكون ما يستكثر (٦) من عزه قليلا ، لأن نصف العز أقل من ضعفه ، وضعف العز أكثر من نصفه ، وما ملك غيره من أحد شطري العز ، فليس له بملك ولا عز معز ، ولكنه لمالكه دونه ، ليس له شيء
__________________
(١) أي : جانب.
(٢) سقط من (أ) : ذي.
(٣) في (أ) : وجوده.
(٤) في (أ) : ووجد.
(٥) سقط من (أ) : بدعا.
(٦) في (أ) و (ه) : يستكثره.