ولو جاز أن يكون فاعل هذا صادقا ، جاز أن يكون من فعل شيئا وجاء به ، وقال : أنا جئت به أن يكون كاذبا ، مع أن الله تبارك وتعالى ، قد عاب فاعل ذلك وذمه ، فقال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)) [النساء: ١١٢].
وإن زعم أن الكفر جاء به من لم يخلقه ، ومن خلقه لم يجئ به خرج من المعقول ، ولزمه أن يقول : إن من لم يخلق الموت هو الذي جاء به ، ومن خلقه لم يجئ به ، وهذا خروج من عقول الخلائق.
فإن سأل سائل عن قول الله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩]. فقال : إذا كان قد أخبر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس ، كيف يزعم أنه خلقهم لعبادته؟ وإلا فبينوا ما تأويل الآية عندكم؟!
فأول ما نجيبه أن نقول له : ينبغي أن تعلم أن كتاب الله لا يتناقض ولا يختلف ، ولا يكذب بعضه بعضا ، لأن الاختلاف لا يأتي من عند حكيم ، وقد قال تبارك وتعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. فإذا علمت أن ذلك كذلك ، فقد وضح لك الأمر ، أمر الآية من قبل أنه أخبرنا أن خلق الإنس والجن لعبادته ، وقال في موضع آخر : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). ثم أخبرك من هم فقال : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ...) إلى آخر الآية [الأعراف : ١٧٩]. فينبغي لك إذا ورد عليك شيء من كتاب الله ، مما ذهب عنك معناه ، أن تسأل عنه العلماء ، فإن الله عزوجل ، يقول : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧]. وقال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ١٩]. وليس ينبغي لعاقل أن يدع ما علم لما جهل ، وليس لك أن تشك في الواضح إذا ذهب عنك الخفي ، فينبغي للعاقل أن يتمسك بالواضح من كتاب الله ، وبالمحكم من كلام الله ، فإن في ذلك تبيانا وشفاء لمن طلب الحق وأراده. وقد رغّب الخلق في التمسك بالمحكم من كتابه ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران : ٧].