وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ، مما أخرجه الله جل ثناؤه ، من تمكين العباد وأفعالهم ، لم يجعل لأحد عليه قدرة ولا استطاعة ، ولا عند أحد منهم معرفة في شيء من بدوّ ذلك وإنشائه ، ومن أعمل منهم فكره ليبلغ معرفة شيء من ذلك بقي حسيرا ، منقطعا مبهورا ، ولا جعل إلى أحد في شيء منه سبيلا ، ولا جعل لأحد فيه محمدة ولا ذما ، لأنه جل ثناؤه لم يستعن على إنشاء ما أنشأ بأحد ، ولم يشاركه في ملكه أحد ، ولم يؤامر في تدبيره أحدا ، فهو الواحد الأحد ، الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان.
فهو الدائم بلا أمد ، الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)) [الحديد : ٣].
وجميع ما أدركته ببصرك ووهمك ، ووقع عليه شيء من حواسك ، أو كيّفته بتقديرك ، أو حددته بتمثيلك ، أو شبهته بتشبيهك ، أو وقّت له وقتا ، أو حدّدت له حدا ، أو عرفت له أولا ، أو وصفت له آخرا ، فهو محدث مخلوق ، والله تبارك وتعالى خالق الأشياء ، لا من شيء خلقها ، ولا على مثال صوّرها ، بل أنشأها وابتدأها ، فدبرها بأحكم تدبير ، وقدرها بأحسن تقدير.
فهو جل ثناؤه ، لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق ، لأنه الخلاق الذي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. لم يخص بذلك شيئا دون شيء ، بل عم الأشياء كلها ، ما كان منها وما يكون ، فلا شبيه له ولا عديل ، لا الضياء ولا الأنوار ، ولا الظلمات ولا النار. وذلك أن النور والظلمة مخلوقان محدثان ، يوجدان ويعدمان ، ويقبلان ويدبران ، ويذهبان ويجيئان ، ويوصفان ويحدان. والخالق جل ثناؤه ليس كذلك ، لأن الخالق جل وعز قديم لم يزل ، والمخلوق لم يكن ، فآثار الصنعة في المخلوق بينة ، وأعلام التدبير قائمة ، والعجز فيه ظاهر ، والحاجة له لازمة ، والآفات به نازلة ، فأنت تراه مرة ماثلا ، ومرة آفلا زائلا.
فلما كانت هذه صفة كل مخلوق ، ولم يجز أن تضاف صفة المخلوق إلى الخالق عز وجهه ، لأن الخالق لا يكون في صفة المخلوق ، تبارك وتعالى الخالق أن يكون له شبه البشر ، هو الحامد نفسه قبل أن يحمده أحد من خلقه. فقال تبارك وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا