بينة. وذلك أن الله عزوجل أخبر أن الشيطان وجنوده من الجن والإنس يضلون ، وإنما (١) إضلالهم للعبد إنما هو من طريق الصد عن الطاعة ، بالغرور والكذب والخداع والتزيين للقبيح الذي قبحه الله ، والتقبيح لما زيّن الله وحسّنه ، فذلك معنى إضلال الشيطان وأوليائه. والله جل ثناؤه يضل لا من طريق أولئك ، لأنه تعالى عن الكذب والصد ، وإنما معنى إضلاله جل ثناؤه للعباد الذين يضلون عن سبيله ، عند كثير من أهل العلم : التسمية لهم بالضلالة ، والشهادة عليهم بها. كما يقال : فلان كفّر فلانا ، وفلان عدّل فلانا ، وفلان جوّر فلانا. يريدون : أنه سماه بذلك ، لما هو عليه من ذلك ، فكذلك يقال أضلّ الله الفاسقين ، وطبع على قلوب الكافرين ، معنى ذلك عند كثير من أهل العلم : أنه شهد عليهم بسوء أعمالهم ، ونسبهم إلى أفعالهم ، مسميا لهم بذلك ، وحاكما عليهم به كذلك ، لما كان منهم ، فذلك تأويل الآيات المتشابهات في هذا المعنى ، عند من وصفنا من أهل العلم.
فعلى العبد أن يتقي الله ، وينظر لنفسه ، وأن لا يقبل ما تأولته القدرية المجبرة ، مما لا يجوز على الله جل ثناؤه في الثناء ، وأدنى ما عليه أن يحسن الظن بربه ، ويأمنه على نفسه ودمه ، ويعلم أنه أنظر له من جميع خلقه ، وليرجع إلى المحكمات من الآيات ، التي وصف الله جل ثناؤه فيها نفسه ـ جل وجهه ـ بالعدل والإحسان ، والرحمة بخلقه ، والغنى عنهم ، والأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية ، فيعمل بتلك الآيات ويكون عليها ، ويؤمن بالمتشابهات ، ولا يظن أنها وإن جهل تأويلها وحرّفت عن تفسيرها أنها تنقض المحكمات ، فإن كتاب الله (لا ينقض بعضه بعضا ، ولا يخالف بعضه بعضا ، وقد قال) (٢) الله عزوجل : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. فنفى أن يكون في كتابه اختلاف.
فليتق الله عبد ولينظر لنفسه ، وليحذر هذه الطائفة من القدرية والمجبرة ، فإنهم كفار بالله ، لا كفر أعظم من كفرهم ، لما وصفنا من فريتهم على الله جل ثناؤه ، في كتابنا هذا. لأنهم شهدوا لجميع الكفار أن الله أدخلهم في الكفر شاءوا أو أبوا ، فشهدوا
__________________
(١) في (ب) و (د) : فإنما.
(٢) سقط ما في القوسين من (أ) و (ج) : سهوا.