المدينة كلها خرابها ودهاليزها ومنازلها ، فلم يجدوه مع ستر الله وعونه لوليه.
فأقام في ذلك الحطب سنة ، فلما دار عليه الحول اكترى له صاحبه في الموسم محملا ، وجعل كراءه لامرأة فكان في ذلك المحمل يحجب ويصان كما تصان الامرأة ، حتى وصل مكة ودخل في الناس وتنكر وخرج يتلمس أهله وأولاده ، وكان ولده القاسم لما ولد بعده شبّ ونشأ أديبا لبيبا عالما جوادا فانتقل بأهله إلى جبال الأشعر (١) وتحرز فيها من الظالمين ، فلم يزل أبوه يسير حتى وصل منازل أهله ، فأتى فناء ولده ووجده قاعدا في حلقة في جماعة وهو فيهم منظورا إليه ، مردود مجلس الجماعة عليه ، فتوسّمه فقال : إن كان عاش ولدي فهو هذا ، فسلّم على الجماعة فردّوا أحسن التحية عليه ، وقال من أنت يا غلام؟
فقال : أنا القاسم بن إبراهيم.
قال : فأين أبوك؟
قال : في رحمة الله.
قال : فأنا هو.
قال : غلّطت!!
قال : ليس كما قلت إن له منذ قبض وقتل ما يداني العشرين السنة.
قال : فأنا هو قد حبست وطال ذلك وسلّم الله ، ثم أخلاه من الجماعة ثم سأله : أعاد عمتك فلانة ، وأمك فلانة ، وأختك ، وسأله عن أهله.
فقال له : دع عنك هذا فإنه ربما يأتي بعض مردة بني آدم بمثل هذا ، ولم يقربه إلى معرفة.
قال : امض إلى أهلك فأعلمهم بما ذكرت لك ، فمضى إلى أهله فأخبرهم بخبر أبيه ونكرته له ، فقالت له أمه : على أبيك علم لا ينكر. قالت : في صدره ضربتان بسيف معترضتان ، على ثديه أثرهما لا يغبأ ، فإن كان ذلك فهو أبوك فعاد إليه.
فقال له : في صدرك ضربتان أثرهما باد. فقال : نعم. فأراه ذلك فلما رآه [عرفه]
__________________
(١) الأشعر جبل جهينة ينحدر على ينبع. وفاء الوفاء ٤ / ١١٢٦.