فإذ قد تكلمنا على إمكان النبوة قبل مجيئها ووجوبها حين وجودها ، فلنتكلم الآن بحول الله وقوته على امتناعها بعد ذلك. فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إذ قد صح كل ما ذكرناه من المعجزات الظاهرة من الأنبياء عليهمالسلام شهادة من الله تعالى لهم مصدقا بها أقوالهم ، فقد وجب علينا الانقياد لما أتوا به ، ولزمنا تيقن كل ما قالوا. وقد صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته وأعلامه وكتابه أنه أخبر أنه لا نبي بعده (١) ، إلّا ما جاءت الأخبار الصحاح عن نزول عيسى عليهالسلام الذي بعث إلى بني إسرائيل وادّعى اليهود قتله وصلبه ، فوجب الإقرار بهذه الجملة ، وصحّ أن وجود النبوة بعده عليهالسلام باطل لا يكون البتة.
وبهذا يبطل أيضا قول من قال بتواتر الرسل ووجوب ذلك أبدا وبكل ما قدمناه مما أبطلنا به قول من قال بامتناعه البتة ، إذ عمدة حجة هؤلاء هي قولهم : إن الله حكيم ، والحكيم لا يجوز في حكمته أن يترك عباده هملا (٢) دون إنذار.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد أحكمنا بحول الله تعالى وقوته قبل هذا أن الله تعالى عزوجل لا شرط عليه ، ولا علة عليه أن يفعل شيئا ، ولا ألا يفعله ، وأنه تعالى لو أهمل الناس لكان حقا وحسنا لو خلقهم كما خلق سائر الحيوان الذي لم يلزمه شريعة ، ولا حظر عليه شيء ، وأنه تعالى لو واتر الرسل والنذارة أبدا لكان حقا وحسنا ، كما فعل بالملائكة الذين هم حملة وحيه ورسله أبدا ، وأنه تعالى لو خلق الخلق كفارا كلهم لكان ذلك منه حقا وحسنا ، أو لو خلقهم مؤمنين كلهم لكان حقا وحسنا ، كما أن الذي فعل تعالى من كل ذلك حق وحسن ، وأنه لا يقبح شيء إلّا من مأمور ومنهي قد تقدّمت الأوامر وجوده وسبقت الحدود المرتّبة للأشياء كونه ، وأما من سبق كلّ ذلك فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء لا معقب لحكمه.
وأمّا الملائكة فكل من له معرفة ببنية العالم والأفلاك والعناصر فإنه يعلم أن الأرض وعمقها أقرب إلى الفساد من سائر العناصر ، ومن سائر الأجرام العلوية ، وأنها مواتية (٣) كلها ، وأن الحياة إنما هي في النفس المنزلة قسرا إلى مجاورة البدن الترابي
__________________
(١) انظر الحاشية ١ صفحة ٩٦.
(٢) الهمل (بالتحريك) : المهمل المتروك ليلا ونهارا بلا رعاية ولا عناية (المعجم الوسيط : ص ٩٩٥).
(٣) أي صائرة إلى الموت.