يغلب به نفسه ، ويجاهد به هواه ، ويحترز به من الشيطان ، وكان يداوي قلبه بالفكر ، ويداوي نفسه بالعبر ، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه ، فبذلك أوتي الحكمة ، ومنح العصمة ، فإن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة ، فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم ، فقالوا : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان : إن أمرني الله بذلك فالسّمع والطاعة ، لأنه إن فعل بي ذلك أعانني عليه وعلّمني وعصمني ، وإن هو خيّرني قبلت العافية.
فقالت الملائكة : يا لقمان ، لم قلت ذلك؟ قال : لأن الحكم بين الناس بأشدّ المنازل من الدين ، وأكثرها فتنا وبلاء ، ويخذل ولا يعان ، ويغشاه الظلم من كلّ مكان ، وصاحبه فيه بين أمرين : إن أصاب فيه الحقّ فبالحريّ (١) أن يسلم ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وضعيفا ، كان أهون عليه في المعاد من أن يكون فيه حكيما سريّا شريفا ، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما ، تزول هذه ولا يدرك تلك ـ قال ـ فتعجبت الملائكة من حكمته ، واستحسن الرحمن منطقه.
فلمّا أمسى وأخذ مضجعه من الليل ، أنزل الله عليه الحكمة ، فغشّاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم ، وغطاه بالحكمة غطاء ، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثها فيها ـ قال ـ فلما أوتي الحكم ، ولم يقبله ، أمر الله الملائكة فنادت داود بالخلافة ، فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان ، فأعطاه الله الخلافة في الأرض وابتلي فيها غير مرة كل ذلك يهوي في الخطأ ويقيله الله ويغفره له.
وكان لقمان يكثر زيارة داود عليهالسلام ، ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل
__________________
(١) الحريّ : الجدير والخليق. «النهاية ج ١ ، ص ٣٧٥».