نشأ أبو عبيد في هراة وبها تعلم (٤) إلى أن بلغ سن العشرين ، فدعاه حبّه للعلم وشغفه بالمعرفة إلى الخروج من هراة ، فتحوّل سنة ١٧٩ ه / ٧٩٥ م إلى كلّ من الكوفة والبصرة وبغداد ، وقد سمع عن فقهائها ونحاتها ومفسّريها الشيء الكثير. فكان حريصا على ملازمة المحدّثين والرواة ، كلفا بعلوم القرآن والقراءات ، دائم الاتّصال باللغويّين والنحاة. ولئن اختلفت مذاهب شيوخه وتنوّعت ، وتعدّدت مناهجهم وتباينت ، فقد ظلّ أبو عبيد وفيًّا لهم جميعا يأخذ عن هذا الفريق وذاك ، ويجلس إلى دروسهم بانتظام كوفيّين وبصريّين على السواء ، همّه الوحيد الجمع والتحصيل والرسوخ في العلم (٥).
ورجع إلى هراة مسقط رأسه بعد رحلة طويلة مكنته من جمع أصناف من العلم وتأليف الكثير من الكتب في اللغة والفقه والحديث وعلوم القرآن والقراءات. ولقد عمل بها مؤدّبا في أسرتين من خراسان ، ثم سُمّي قاضيا على مدينة طرطوس (٦) سنة ١٩٢ ه / ٨٠٧ م ، وظلّ في هذا المنصب ثمانية عشر عاما انتقل اثرها إلى بغداد قصد الإقامة بها. ولم يمض وقت طويل حتّى تعرّف على عبد الله بن طاهر (٧) أمير خراسان فقرّبه وأصبح وليّ نعمته. وقام أبو عبيد بفريضة الحجّ سنة ٢١٩ ه / ٨٣٤ م ، وأقام بمكّة إلى أن توفّي (٨) سنة ٢٢٤ ه / ٨٣٨ م وقد بلغ من العمر سبعا وستين سنة.
__________________
(٤) المراجع ضنينة بالأخبار عن المرحلة الأولى من حياة أبي عبيد التي قضاها بهراة قبل انتقاله إلى بغداد ولا نعلم شيئا ذا بال عن نوع الثقافة التي تلّقاها في صباه بهراة.
(٥) يقول الذهبي في «التذكرة» عن أبي عبيد بعد أن اكتمل تكوينه (ج ٢ / ٦): «وكان أبو عبيد حافظا للحديث وعلله عارفا بالفقه والاختلاف ، رأسا في اللّغة ، إماما في القراءات».
(٦) «طرسوس بفتح أوله وثانيه مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. أنشئت سنة نيّف وتسعين ومائة» ياقوت : معجم البلدان ج ٦ / ٣٨.
(٧) واسمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي بالولاء ، أمير خراسان ومن أشهر الولاة في العصر العباسي توفي سنة ٢٣٠ ه. ترجم له ابن خلكان في الوفيات ج ١ / ٢٦ وقال : «كان عبد الله سيّدا نبيلا عالي الهمّة شهما».
(٨) كلّ المراجع التي بين أيدينا متّفقة على مكان وفاة أبي عبيد ، وهو مكّة ما عدا برو كلمان فقد كان متردّدا في مكان وفاته بين مكة والمدينة. ونورد فيما يلي خبرا لياقوت في المعجم ج ١٦ / ٢٥٦ يبيّن ـ