وسبق انّه إذا أدرك الفعل مصالح ومفاسد في الفعل من عند نفسه ـ دون ورود نصّ حولهما ـ فلا يصح للفقيه أن يتخذه ذريعة إلى استكشاف الحكم الشرعي من الوجوب والحرمة ، بحيث يكون علمه بالمصالح والمفاسد من مصادر التشريع.
ومع هذا الاعتراف كيف يصحّ القول بأنّ الأحكام الشرعية رهن المصالح والمفاسد؟!
وأمّا الإجابة فواضحة ، إذ لا منافاة بين الأمرين فانّ الكلام هنا في مقام الثبوت وانّ التشريع الإسلامي ، رهن الملاكات والمناطات عند الله سبحانه وربما يقف عليها العباد عن طريق النصّ كما أنّهم كثيراً ما يجهلون بعلل التشريع. والحاصل : وليس التشريع فوضى غير خاضع للملاك.
وهذا لا ينافي ما رفضناه من أنّه ليس للفقيه الخوض في تعيين مصالح الأفعال ومفاسدها فيحكم على الأوّل بالوجوب وعلى الثاني بالحرمة لقصور العقل عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية وربما يدرك العقل مصلحة أو مفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراكه أحد الأمرين لا يكون دليلاً على التشريع.
مرجّحات باب التزاحم
ثمّ إنّ المصالح والمفاسد ، لما لم تكن على وزان واحد ، بل رب واجب يسوغ في طريق إحرازه ، اقتراف بعض المحرّمات ، لاشتماله على مصلحة كثيرة لا يجوز تركها بحال ، كإنقاذ الإنسان المتوقف على استطراق أرض الغير ، بلا إذنه ، ورب حرام ذي مفسدة كبيرة لا يجوز اقترافه وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات. فلذلك يحكم العقل بتقديم الأهم على المهم عند التزاحم.