الأحكام الفرعية في غاية من السعة والحرية ، كان يقلّد عامّيهم من اعتمد عليه من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية ، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامّة المسلمين : «العامّي المقلّد والفقيه المجتهد» أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمة الأربعة؟! وبأي دليل شرعي صار اتّباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً ، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدّم بعضها على غيرها ، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة ، كما أوضح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة ، ص ٢١٦ في وقائع سنة ٦٤٥ ، يعني قبل انقراض بني العباس بإحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو ، سنة ٦٥٦ ، فلاحظ ذلك الكتاب. (١)
وقد خلّف هذا الوضع أثراً سلبياً عجيباً ، وهو انّ انتصار كلّ حاكم من الحكام لمذهب من المذاهب ، صار سبباً لانقراض كثير من المذاهب ؛ كمذهب سفيان الثوري ، وسفيان بن عينية ، وعبد الله بن مبارك ، وابن عمر ، والأوزاعي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وليث بن سعد ، وداود بن علي ، وأبي ثور ، وابن جرير الطبري ، وغيرهم.
فقد كانت الدولة العباسية تثبّت دعائم مذهب أبي حنيفة ، فيولّى القضاء من كان متّبعاً لهذا المذهب ، ولمّا استولى الفاطميون على مصر نشروا المذهب الإسماعيلي ومنعوا التفقّه على مذهب أبي حنيفة ، لأنّه مذهب الدولة العباسية وسمحوا بالتفقّه على المذهب المالكي والشافعي والحنبلي.
__________________
(١) رسالة الاجتهاد للطهراني : ١٠٤.