ج. تدوين المذاهب
إنّ تدوينها قد سهل على الناس تناولها ، والناس دائماً يطلبون السهل اليسير دون الصعب العسير ، وقد كان يدفع الناس إلى الاجتهاد في العصور السابقة ضرورة ملجئة إلى تعرّف أحكام حوادث وشئون جديدة لا يعرفون حكمها الشرعي.
فلمّا جاء المجتهدون في الأدوار السابقة ودوّنوا أحكام الحوادث التي عرضت والتي يحتمل عروضها ، صار الناس كلّما عرضت لهم مسألة وجدوا السابقين قد تعرّضوا لها ، فاكتفوا بمقالهم في شأنها ، فسدّت حاجتهم بما وجدوا ، فلا حافز يحفزهم إلى بحث جديد.
وساعد على ذلك ما للأقدمين من موقع علمي كبير جدير بالتقدير ، وما يكسبهم تفوقهم على مضي الزمن من إجلال ، وما يكون من عناية الأُمم بتكريم سلفها الصالح ليرتبط حاضرها بماضيها برباط متين.
لهذا كلّه انصرف الناس إلى التقليد ، اللهمّ إلاّ في تعرّف علل الأحكام المذهبية ، أو ترجيح بعض الآراء في المذهب نفسه على غيرها.
ويسمّى من أُوتي القدرة العلمية على ذلك : مجتهداً في المذهب ، أي انّه ليس مجتهداً مطلقاً ذا مذهب مستقل ، بل هو من أتباع إمام مجتهد ، ولكنّه ذو رأي معتبر في ضمن مذهب إمامه ، وفي البناء على أُصوله. (١)
هذه العوامل الثلاثة وإن سببت ركود الحركة الاجتهادية ، ولكنّها عوامل جانبية على ما يبدو ، بل هناك سبب آخر وهو المهم في شلِّ الحركة العلمية الفقهية ، وهو تأثير السياسة التي اتّخذها القادر بالله الخليفة العباسي للحد من
__________________
(١) المدخل الفقهي العام : ١ / ١٧٩١٧٧.