باب (مذ ، ومنذ)
وهما حرفان في موضع واسمان في موضع ؛ فإذا كان معناهما (في) فهما حرفان ، وإذا كان معناهما تقدير المدّة وابتداءها فهما اسمان إلا أنّ الأكثر في (مذ) أن تستعمل اسما ، والأكثر في (منذ) أن تستعمل حرفا وعلّة ، وذلك أنّ أصل (مذ) : (منذ) فحذفت نونها والحذف تصرّف ، وذلك بعيد في الحروف ويدلّ على الحذف أنّك لو سمّيت ب (مذ) ثمّ صغّرته أو كسّرته أعدتها فقلت : (منيذ) و (أمناذ).
فصل : و (منذ) (١) مفرد عند البصريّين ومركّب عند الكوفيّين واختلفوا في تركيبه فقال الفرّاء : (من ذو) التي بمعنى (الذي) في اللغة الطائّية ، وقال غيره أصله : (من إذ) ثّم حذف وركّب وضمّ أوّله دلالة على التركيب وبنوا على هذا الإعراب.
فقالوا تقدير قولك : ما رأيته منذ يومان ، أي : من الذي هو يومان ف (يومان) خبر مبتدأ محذوف ، وقال الآخرون : هو فاعل فعل محذوف ، أي : من إذ مضى يومان.
وعلى قول البصريّين : (منذ) مبتدأ و (يومان) خبره ، والتقدير : أمد ذلك يومان أو أوّل ذلك يوم الجمعة.
وحجّة البصريّين : أنّ الأصل عدم المركّب والانتقال عن الأصل يفتقر إلى دليل ظاهر ولا دليل عليه ، وأكثر ما ذكروا أنّ المعنى يصح على تقدير التركيب وهذا القدر لا يكفي في الانتقال عن الأصل ، وإنّما يكون حجّة إذا انضمّ إليه تعذّر الحمل على غيره وهنا يصحّ المعنى
__________________
(١) مذ ومنذ تكونان حرفي جرّ بمعنى «من» ، لابتداء الغاية ، إن كان الزمان ماضيا ، نحو «ما رأيتك مذ أو منذ يوم الجمعة» ، وبمعنى «في» ، التي للظرفيّة ، إن كان الزمان حاضرا ، نحو «ما رأيته منذ يومنا أو شهرنا» أي فيهما. وحينئذ تفيدان استغراق المدّة ، وبمعنى «من وإلى» معا ، إذا كان مجرورهما نكرة معدودة لفظا أو معنى. فالأول نحو «ما رأيتك مذ ثلاثة أيام» ، أي من بدئها إلى نهايتها. والثاني نحو «ما رأيتك مذ أمد ، أو منذ دهر». فالأمد والدهر كلاهما متعدّد معنى ، لأنه يقال لكل جزء منها أمد ودهر. لهذا لا يقال «ما رأيته منذ يوم أو شهر» ، بمعنى ما رأيته من بدئهما إلى نهايتهما ، لأنهما نكرتان غير معدودتين ، لأنه لا يقال الجزء اليوم يوم ، ولا لجزء الشهر شهر.
واعلم أنه يشترط في مجرورهما أن يكون ماضيا أو حاضرا ، كما رأيت. ويشترط في الفعل قبلهما أن يكون ماضيا منفيّا ، فلا يقال «رأيته منذ يوم الخميس» ، أو ماضيا فيه معنى التّطاول والامتداد ، نحو «سرت مذ طلوع الشمس».