وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر. والمقصود : أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وأخرج أصله من تراب ثم كوّن فيه نظام النسل من ماء ، فكيف تعجزه إعادة أجزائه.
والإحسان : جعل الشيء حسنا ، أي محمودا غير معيب ، وذلك بأن يكون وافيا بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي ؛ فصلابة الأرض مثلا للسير عليها ، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس ، وتوجه لهيب النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينا وشمالا لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق.
وقوله (خَلَقَهُ) قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة ل (شَيْءٍ) أي : كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيرا منها. وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من (كُلَّ شَيْءٍ) بدل اشتمال. وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل.
و (الْإِنْسانِ) أريد به الجنس ، وبدء خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١] ، أي : خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. ويدل على هذا المعنى هنا قوله : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) فإن ذلك بدئ من أول نسل لآدم وحواء ، وقد تقدم خلق آدم في سورة البقرة. و (مِنْ) في قوله (مِنْ طِينٍ) ابتدائية.
والنسل : الأبناء والذرية. سمي نسلا لأنه ينسل ، أي : ينفصل من أصله وهو مأخوذ من نسل الصوف والوبر إذا سقط عن جلد الحيوان ، وهو من بابي كتب وضرب.
و (مِنْ) في قوله (مِنْ سُلالَةٍ) ابتدائية. وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل ، فقوله (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) بيان ل (سُلالَةٍ). و (مِنْ) بيانية فالسلالة هي الماء المهين ، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس ؛ ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكوّن الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضلة ، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين ، فتكون (مِنْ) في قوله (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) للتبعيض أو للابتداء.