فخلق السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية ، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقاربة المتلازمة كالليل والنهار والفصول ، والمتضادة كالعلوّ والانخفاض.
وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات ، وخص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية ، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض ، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة ، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض ، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها ؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض. ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض. وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحوال عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية ، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق. وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم ، وتقدم في سورة آل عمران [١٩٠] قوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ).
والألسنة : جمع لسان ، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٤] وقوله (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) [النحل : ١٠٣].
واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات ، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة. فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد ، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة ، وتطرّق التغير إلى لغاتهم تطرقا تدريجيا ؛ على أن توسّع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافا في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقا عليه بينها باختلاف لهجات النطق ، واختلاف التصرف ، فكان لاختلاف الألسنة موجبان. فمحل العبرة هو اختلاف اللغات مع اتحاد