وهذا الغلب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة ٦١٥ مسيحية. وذلك أن خسرو بن هرمز ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيصر الروم ، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.
فالتعريف في (الْأَرْضِ) للعهد ، أي أرض الروم المتحدث عنهم ، أو اللام عوض عن المضاف إليه ، أي في أدنى أرضهم ، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق (أَدْنَى) لظهور أن تقديره : من أرضكم ، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب ، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.
وقوله (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله ، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.
و (غَلَبِهِمْ) مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول (سَيَغْلِبُونَ) للعلم بأن تقديره : سيغلبون الذين غلبوهم ، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوما آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم ، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرس الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.
وفائدة ذكر (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم ، وأنها بحيث لا يظن نصر لهم بعدها ، فابتهج بذلك المشركون ؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدّ به القرآن المشركين ، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديرا خارقا للعادة معجزة لنبيه صلىاللهعليهوسلم وكرامة للمسلمين.
ولفظ (بِضْعِ) بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة ، وقد تقدم في قوله تعالى (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) في سورة يوسف [٤٢]. وهذا أجل لرد الكرّة لهم على الفرس.
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على