مدينة أنطاكية ، فلقيا من أهلها عنفا وردّا ، غير أنّ واحدا من أهلها اسمه حبيب النجار ، آمن بهما وأظهر إيمانه ، وقال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) ، فلما سمع القوم إيمانه وطئوه بأرجلهم حتى مات ، فأدخله الله الجنة ، وخوطب بقوله تعالى : (أُدْخِلَ الْجَنَّةَ). ثم هو تمنّى أن يعلم قومه بما آتاه الله تعالى من المغفرة وجزيل الثواب ، فقال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
فالآية تدل على أنّ الموت ليس فناء للإنسان ، بل هو بعد الموت يرزق في الجنة ، ويتمنى أن يعلم قومه بما رزق من الكرامة.
أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى : (أُدْخِلَ الْجَنَّةَ) ، لا يمكن أن يكون خطابا للبدن لأنه يوارى تحت التراب ، فالمخاطب به شيء آخر ، وهو الروح ، فتدخل الجنة وتتنعّم فيها ، وكم فرق بين قوله : «أدخل الجنة» وقوله «أبشر بالجنة» فالثاني لا يدلّ على شيء مما ذكرنا بخلاف الأوّل.
(و) يقول سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).
وأمّا دلالة الآية على أنّ الروح أمر غير مادّي ، فيظهر بالإمعان فيها ، وبيانه : أنّ الآية تبيّن تكامل خلقة الإنسان من مرحلة إلى مرحلة ، والمراحل الموجودة بين السلالة ، وقوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ، كلّها تكامل من صنف واحد ، فمادة الإنسان لن تبرح تتكامل من السلالة إلى العظام المكسوة باللّحم.
وبعد ذلك نرى تغييرا في أسلوب بيان الآية ، حيث يقول : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). فهو سبحانه :
أولا : يعطف هذه المرحلة على المراحل السابقة ، بلفظة ثمّ ، بخلاف
__________________
(١) سورة المؤمنون : الآيات ١٢ ـ ١٤.