الباطل ، والصدق من الكذب ، والعدل من الظلم ، والرذيلة من الفضيلة. ولأجل هذه السّعة في معنى الميزان يقول سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) ، فلا معنى لتخصيص الميزان هنا بما توزن به الأثقال ، مع أنّ الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان هو قيام الناس بالقسط في جميع شئونهم العقيدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبذلك يعلم أنّ تفسير الميزان بالعدل ، أو بالنبي ، أو بالقرآن ، كلّها تفاسير بالمصداق ، فليس للميزان إلّا معنى واحد هو : ما يوزن به الشيء ، وهو يختلف حسب اختلاف الموزون من كونه جسما أو حرارة أو نورا أو ضغطا أو رطوبة أو غير ذلك.
يقول صدر المتأهلين رحمهالله : «ولو تأملوا قليلا في نفس معنى الميزان ، وجرّدوا حقيقة معناه عن الزوائد والخصوصيات ، لعلموا أنّ حقيقة الميزان ليس يجب أن يكون البتة مما له شكل مخصوص ، أو صورة جسمانية ، فإنّ حقيقة معناه وروحه وسرّه ، هو ما يقاس ويوزن به الشيء ، والشيء أعمّ من أن يكون جسمانيا أو غير جسماني ، فكما أنّ القبّان ، وذا الكفتين وغيرهما ، ميزان للأثقال ، والاسطرلاب ميزان للارتفاعات والمواقيت ، والشاقول ميزان لمعرفة الأعمدة ، والمسطر ميزان لاستقامة الخطوط ، فكذلك علم المنطق ميزان للفكر في العلوم النظرية ، وعلم النحو ميزان للإعراب والبناء ، والعروض ميزان للشعر ، والحسّ ميزان لبعض المدركات ، والعقل الكامل ميزان لجميع الأشياء ، وبالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه ، فالموازين مختلفة والميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على أشرف الموازين وهو ميزان يوم الحساب ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٢) وهو ميزان العلوم وميزان الأعمال القلبية ، الناشئة من الأعمال البدنية» (٣).
ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يصف الميزان بكونه منزلا من جانبه سبحانه ، كما في الآية السابقة ويقول : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، وَالْمِيزانَ ، وَما يُدْرِيكَ
__________________
(١) سورة الحديد : الآية ٢٥.
(٢) سورة الأنبياء : الآية ٤٧.
(٣) الأسفار ، ج ٩ ، ص ٢٩٩.