الإشكال الثالث :
إنّ الشفاعة لا تتحق إلا بترك الإرادة وفسخها لطلب الشفيع رفع العقاب عن المشفوع له ، من غير فرق بين الحاكم العادل والحاكم الظالم ، غاية الأمر أنّ الحاكم العادل لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغيّر علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ، ورأى العدل في خلاف ما أراده أو حكم به. وأما الحاكم الظالم ، فهو يقبل الشهادة لكن مع العلم بصواب الحكم الأول وكونه عدلا ، لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرّب عنده على العدالة ، وكلا النوعين محال على الله ، لأن إرادته تعالى على حسب علمه ، وعلمه أزلي لا يتغير (١).
والجواب :
إن المستشكل لو أمعن في حقيقة الشفاعة التي نطق بها القرآن والأحاديث لما جعل الشفاعة من هذا الباب. بل هي من واد آخر ، ومن باب تغيير الحكم لأجل تغيّر الموضوع. فالخمر ما دام خمرا حرام ، فإذا تبدّل إلى الخل يكون حلالا ، ولا يعدّ الحكم الثاني ناقضا للحكم الأول.
ونظير ذلك العاصي والتائب ، فإن العصيان حالة نفسانية في الإنسان ، فله حكمه الخاص ، كما أنّ التوبة حاكية عن حالة نفسانية مغايرة للحالة الأولى ، فلها حكمها الخاص ، والاختلاف في الحكمين لأجل الاختلاف في الموضوعين ، ولا يعد ذلك تبدّلا في العلم ، بل تبدّلا في المعلوم.
وعلى هذا الأساس ، فالعاصي ـ مجردا عن انضمام الشفاعة إليه ـ محكوم بالعقاب ، ولكنه ـ منضمّة إليه الشفاعة ـ محكوم بحكم آخر من أول الأمر ، واختلاف الحكمين ، لأجل اختلاف الموضوعين في الإطلاق والتقييد.
وإن شئت قلت : إنّ العاصي مجردا عما يمر عليه في البرزخ من العذاب ،
__________________
(١) المنار ، ج ١ ، ص ٣٠٧ ، وقد تبنى مؤلّفه هذا الإشكال وما يليه!!.