ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(١).
فقوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) ، استثناء من أهم الأحوال ، أي إنّ ترك موالات الكافرين حتم على المؤمنين في كل حال ، إلا في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم ، فللمؤمنين حينئذ أن يوالوهم بقدر ما يتّقى به ذلك الشيء ، لأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.
والاستثناء منقطع ، فإنّ التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولّي ظاهرا ، من غير عقد القلب على الحب والولاية ، ليس من التولّي في شيء. لأنّ الخوف والحبّ أمران قلبيّان ، ومتنافيان أثرا في القلب ، فكيف يمكن اجتماعهما. فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.
فلو كانت التقية من فروع النفاق ، فلما ذا دعا إليها الكتاب الحكيم؟.
روى السيوطي في الدرّ المنثور قال : أخرج ابن إسحاق وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال : كان الحجّاج بن عمرو ، حليف كعب الأشرف ، ابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ، وقد بطنوا بنفر من الأنصار ، ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء النفر من اليهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنونكم عن دينكم. فأبى أولئك النفر ، فأنزل الله فيهم : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ) إلى قوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).
وقال سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣). فترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرها ، ومجاراة الكافرين خوفا
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ٢٨.
(٢) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ١٦.
(٣) سورة النحل : الآية ١٠٦.