وأمّا بعد الهجرة ، فمرّة بايعه الصحابة في غزوة الحديبية ، وسميت بيعة الرضوان ، لقوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).
وأخرى بايعته الصحابيات في مكة المكرمة بعد فتحها ، وعنه يحكي قوله سبحانه : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ...)(٢).
إذا عرفت ذلك فلنعطف نظر الباحث إلى نكات :
الأولى ـ إنّ بيعة المسلمين للنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لم تعن الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته ، فضلا عن نصبه وتعيينه ، بل إنّ المبايعين ، بعد أن آمنوا بنبوة النبي واعترفوا بقيادته وزعامته ، أرادوا أن يصبّوا ما يلازم ذلك الإيمان ، من الالتزام بأوامر الرسول ، في قالب البيعة ، فكانت البيعة صورة عملية للالتزام النفسي بأوامر النبي ، بعد الإقرار بنبوته ، وزعامته. فكأنّ النبي الأكرم يقول : «فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني ، وتصلّوا وتزكّوا ، وأن تدفعوا عني العدو حتى الموت ، ولا تفروا من الحرب».
والهدف عندئذ من البيعة لم يكن هو الاعتراف بمنصب المبايع ، وانتخابه وتعيينه لمقام الحكومة والولاية ، بل كانت لأجل التأكيد العملي على الالتزام بلوازم الإيمان السابق عليه ، وهذا بارز في البيعة الثانية للأنصار في منى ، وبيعة الصحابة في غزوة الحديبية.
الثانية ـ إنّ البيعة ميثاق بين شخصين ، تندرج تحت قوله سبحانه : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣).
وعقد بين المبايعين ، فتندرج تحت قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________________
(١) سورة الفتح : الآية ١٨.
(٢) سورة الممتحنة : الآية ١٢.
(٣) سورة الإسراء : الآية ٣٤.