الله بن طاهر ، ثم ائته فادعه ورغّبه في استجابته له ، وابحث عن دفين نيّته بحثا شافيا ، وائتني بما تسمع منه.
قال : ففعل الرجل ما قال له ، وأمره به ، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام ، قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر ، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه ، فلما انصرف قام إليه الرجل ، فأخرج من كمّه رقعة فدفعها إليه ، فأخذها بيده ، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه ، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ، ما بينه وبين الأرض غيره ، وقد مدّ رجليه ، وخفّاه فيهما ، فقال له : قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك ، فهات ما عندك ، قال : ولى أمانك وذمة الله معك؟ قال : لك ذلك.
قال : فأظهر له ما أراد ، ودعاه إلى القاسم ، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده ، فقال له عبد الله : أتنصفني؟ قال : نعم. قال : هل يجب شكر الله على العباد؟ قال : نعم. قال : فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قال : نعم. قال : فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى ، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك ، وفيما بينهما أمري مطاع ، وقولي مقبول ، ثم ما التفتّ يميني ولا شمالي وورائي وقدّامي إلا رأيت نعمة رجل أنعمها عليّ ، ومنة ختم بها رقبتي ، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما ، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان ، وتقول : اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا ، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم ، أكان الله يحب أن أغدر به ، وأكفر إحسانه ومنته ، وأنكث بيعته! فسكت الرجل ، فقال له عبد الله : أما إنه قد بلغني أمرك ، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك ، فارحل عن هذا البلد ، فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك ـ وما آمن ذلك عليك ـ كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.
فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون ، فأخبره الخبر ، فاستبشر وقال : ذلك غرس يدي ، وإلف أدبي ، وترب تلقيحي ، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا ، ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون (١).
__________________
(١) تاريخ الطبري ٨ / ٦١٥ ـ ٦١٦.