والأول لا يكون أولا إلا لغيره ، ولا يثبت أولا لتكريره ، فأيهما أولى بالقيام في الوهم؟ حدوث شيء لا من شيء متقدم؟! أو شيء لا أوّل له يعلم؟! ولا نهاية في آخره تتوهّم؟!!
فإن قال شيء لا أوّل له ولا نهاية ، أولى بالتّوهّم منه ولاية.
قيل : فلا يكون هو أولا إلا وهو متوهّم ، وإذا أجزت في معنى لم يزل التوهم ، ثبتت(١) به حينئذ الإحاطة ، ولا يحاط إلا بما له نهاية محيطة ، والنهاية أقطار ، والقطر تحديد وافتطار.
فإن قلت : ليس نتوهمه على هذا لأن هذا قد استحال ، ولكننا نتوهم أنه لم يزل ولن يزال.
قيل : فأنت إنما تريد تتوهم أنك تدرك وتعلم!! فلم أنكرت المحدث وإن لم تعلم له كيفية في الوهم؟! وقد ثبت معنى لم يزل غير متوهّم ، فقد يلزمك أن يكونا جميعا (٢) عندك في التعجب مشتبهين ، فإن قلت : فإني أنفي يا هذا هذين من الوجهين ، فالمسألة عليك في نفسك لازمة ، والأشياء بعد قائمة!!
يقال لك : أتخلو الأشياء من أن تكون حوادث أو قديمة؟! إذ الأشياء ليست إلا قديما أو حادثا ، لا يتوهّم متوهّم فيها وجها ثالثا؟
فإن قلت : فإني لا أدري أعلى حقائق الأشياء أم لا! لحقت بأصحاب سوفسطاء (٣) ، وفيما كان من رد الأوائل عليهم غنى كاف ، وبيان قد تقدم منهم شاف. والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على محمد وآله الذين طهرهم تطهيرا.
ومما يقال إن شاء الله لمن قال إنه لا يكون شيء إلا من شيء ، وأن كل ما أدركنا
__________________
(١) في (ب) و (د) : تبتت. وهي لا تستقيم هنا. لأن معناها الانقطاع.
(٢) سقط من (أ) : جميعا.
(٣) سوفسطاء زعيم لجماعة تنكر المشاهدات والضروريات وقد سبق الحديث عن خرافاتهم. والسوفسطائية : لفظة يونانية و «سوفا» بمعنى العلم ، و «سطاء» تعني الغلط ، فيكون معناها : علم الغلط. وعلى هذا فالسفسطة : قياس مركب من الوهميات ، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته. وليس يعقل أن يكون في العالم قوم ينتحلون هذا المذهب ، بل كل غالط في موضع غلطه يقال له : سوفسطائي.