وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧]. وهكذا صفة المؤمنين ، وليس أحد يقدر أن يؤدي كلما استحق الله جل ثناؤه من عباده من شكر نعمه ، وإحسانه بالكمال والتمام حتى لا يبقي مما يحق له جل ثناؤه عليه شيئا إلا أداه. هيهات!! فكيف وهو يقول تبارك وتعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨]. فكيف يؤدي شكر ما لا يحصى؟! ولم يفترض جل ثناؤه على خلقه ذلك ، ولا يسأل كلما له عليهم ، مما يستحق لديهم ، لعلمه بضعفهم ، وأن في بعض ذلك استفراغ جهدهم ، وما تعجز عنه أنفسهم ، وأنهم لا يقدرون على ذلك ، ويقصرون عن بلوغ ذلك ، فتبارك الله جل ثناؤه عن الاستقصاء عليهم. ولم يسألهم كل ماله عليهم ، وغفر لهم صغير ذنوبهم كله ، إذا اجتنبوا كبيره ، رحمة بهم ونظرا لهم.
فأما من رجا الرحمة وهو مقيم على الكبيرة ، فقد وضع الرجاء في غير موضعه ، واغتر بربه ، واستهزأ بنفسه ، وخدعه وغرّه من لا دين له ، إلا أن يتوب فيغفر له بالتوبة.
فأما الإقامة على الكبائر فلا. بل قد وصف الله جل ثناؤه الراجين لرحمته ، وكيف وضعوا الرجاء موضعه ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)) [البقرة : ٢١٨]. فهكذا يكون الرجاء. وذلك أن الجنة والنار طريقان ، فطريق الجنة طاعة الله المجردة من الكبائر من معاصى الله ، وطريق النار معصية الله ، وإن لم تكن مجردة من بعض طاعات الله ، لأنا قد نجد العبد يؤمن بكتاب الله (١) ، ويكفر ببعضه فلا يكون مؤمنا ، ولا بما آمن به منه من النار ناجيا ، يصدق ذلك قول الله عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة : ٨٥]. فلم يسمّوا بما آمنوا به مؤمنين ، بل سمّوا بما كفروا به منه كله كافرين.
وعلى هذه الطريق في من لم يكفر به من الفاسقين ، أهل الكبائر العاصين ، فمن
__________________
(١) في (أ) و (ب) و (د) : بكتاب الله كله ، ويكفر ... لعلها زيادة من النساخ.