بسم الله الرّحمن الرّحيم
اعلم يا أخي علمك الله الخير والهدى ، وجنبك جميع المكاره والردى ، أن الله خلق جميع عباده العقلاء المكلفين لعبادته ، كما قال عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٧].
والعبادة تنقسم على ثلاثة أوجه : أولها : معرفة الله.
والثاني : معرفة ما يرضيه وما يسخطه.
والوجه الثالث : اتباع ما يرضيه ، واجتناب ما يسخطه.
وهذه الوجوه كلها فهي كمال العبادة ، وجميع العبادات غير خارجة منها ، فمعرفة الله عبادة كاملة لمن ضاق عليه الوقت. وهي منفصلة من العبادة الثانية ، لمن تراخت به الأيام إلى وصول التعبد ، وهو الأمر والنهي الذي فيه رضى المعبود وسخطه. ثم العمل بما يرضيه واجتناب ما يسخطه عبادة ثالثة منفصلة من الوجهين الأولين ، لمن تراخى به الوقت إلى استماع كيفية العبادة على لسان الرسول الذي جاءت الشريعة على يديه. فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج ، احتج بها المعبود على العباد ، وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الآخرتين ، لانهما عرفا به ولم يعرف بهما ، فافهم ذلك.
ثم الإجماع من بعد ذلك حجة رابعة مشتملة على جميع الحجج الثلاث ، وعائدة إليها.
ثم اعلم أن لكل حجة من هذه الحجج أصلا وفرعا ، والفرع مردود إلى أصله ، لأن الأصول محكمة على الفروع ، فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء ولم يختلفوا فيه ، والفرع ما اختلفوا فيه ولم يجمعوا عليه. وإنما وقع الاختلاف في ذلك لاختلاف النظر ،