لقد فرض التحريف على الحقيقة نفسه ، التوحيد في مقابل التثليث ، والصدق التاريخي أمام الوهم ، والعقل أمام الخرافة والتزييف ، والإنسان مقابل الابن الإله ، والإله الابن ، ومسئولية الإنسان عن عمله أمام فكرة الخلاص وإلقاء التبعات على السماء والصليب ، كل هذا وقف ليواجه عقائد هشة مفككة ، لطالما أرّقت أصحابها دهرا طويلا.
جاء الإسلام ليبدد ظلامها ، ويقرر الوحي العيسوي كما نزل به عيسى نفسه ، بلا تحريف أو خرافة إضافتها إليه التصورات الأرضية من الفلسفات القديمات التي تؤمن بالوسائط والتعددية الإلهية ، فهذا إليه للخير وآخر للحب وثالث للجمال ورابع للقوة ... وهكذا ، مما يعني غزو الفلسفة اليونانية للعقيدة المسيحية ، وكذلك الفلسفات الشرقية ، واختلطت نجاسات التصورات الأرضية التي خرجت من المعابد وزوايا الكهوف وبطون الجبال لتلوث طهر وحي السماء وتفرض نفسها عليه.
المسيح إنسان أوحي إليه ، وأمه صديقة ، هذه هي صورة القرآن المنزل للمسيح وأمه ، الله واحد أحد فرد صمد ، والمسيح عبد ، وبدأت المواجهة التي انتهت بالمباهلة في المدينة بين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ووفد نجران ، وينهزم الوفد القادم لمعرفته بحقيقة الأمر.
ولم ينته الصراع عند المواجهة الأولى بل تطور وأخذ أشكالا أخرى من الصراع ، كان أوضحها المواجهة العسكرية ، وحسمها المسلمون بكسر شوكة الدولة الرومانية ، راعية المسيحية العالمية بأشكالها المختلفة ـ طواعية وقهرا ـ وأخذت أشكال أخرى في الظهور متمثلة بين المسلمين وفرق النصارى ومدارسهم في العديد من مدن الإسلام وحواضره ، فلم يعد الأمر في إطار الفكر العقائدي فقط ، بل جاء من ورائه صراع حضاري يمثل الوجود وتقبّل الآخر أو نفيه ، وفي حين بدا الإسلام دينا وشعبا متسامحا مع غيره ، لم يكن الأمر كذلك عند الآخرين الذين عدوا الأمر مواجهة لا يحسمها سوى التسليم بقطب واحد فقط لا غير!
جادل الصحابة في الفتوحات الأولى السّريان في الشرق والأحباش في إفريقيا ، ووضعوا صورا للجدل العقلي عند مناقشة هؤلاء لهم ، ثم تطور الجدل وتتابعت صوره في العصرين الأموي والعباسي ، ووضعت المناظرات بين علماء النصارى والمسلمين ،