وإمّا أن يكون بعضها حقا وسائرها باطلا. لا بدّ من أحد هذين الوجهين ضرورة.
فإن كانت كلها حقا ، فهذا محال لا سبيل إليه ، لأنه لا شريعة منها إلّا وهي تكذب سائرها ، وتخبر بأنها باطل وكفر وضلال وإلحاد.
فوجدنا هذا المخذول الذي أراد بزعمه موافقة جميع الشرائع ، قد حصل على خلاف جميعها أولها عن آخرها ، وحصل على تكذيب جميع الشرائع له كلها بلا خلاف ، وعلى تكذيبه هو لجميعها ، وما كان هكذا وهو يقول إنها كلها حق ، وهي كلها مكذبة له وهو مصدق لها كلها فقد شهد على نفسه بالكذب وبطلان قوله ، وصحّ باليقين أنه كاذب فيه.
وأيضا فإن كل شريعة فهي مضادّة في أحكامها لغيرها ، تحرّم هذه ما تحلّ هذه ، وتوجب هذه ما تسقط هذه ، ومن المحال الفاسد أن يكون الشيء وضده حقا معا في وقت واحد حراما حلالا في حين واحد على إنسان واحد ووجه واحد ، واجبا غير واجب كذلك ، وهذا أمر يعلمه باطلا كل ذي حسّ سليم ، وليس في العقل تحريم شيء مما جاء فيها تحريمه ، ولا إيجاب شيء مما جاء فيها إيجابه ، فبطل أن يرجح بما في العقل ، إذ كل ذلك في حدّ الممكن في العقل ، فإذ قد بطل هذا الوجه ضرورة فقد وجبت صحة الوجه الآخر ضرورة ، وهو أن في الشرائع شريعة واحدة صحيحة عند الله عزوجل ، وأن سائر الشرائع كلها باطل. فإذ ذلك كذلك ففرض على كل ذي حس طلب تلك الشريعة ، واطّراح كل شريعة دون ذلك وإن جلت ، حتى يوقف عليها بالبراهين الصحاح ، إذ بها يكون صلاح النفس في الأبد ، وبجهلها يكون هلاك النفس في الأبد.
فالحمد لله الذي وفّقنا لتلك الشريعة ، ووقفنا عليها ، وهدانا إلى طريقها وعرفناها ، حمدا كثيرا طيبا كما هو أهله. ونحن نسأله تعالى أن يثبتنا عليها حتى نلقاه ونحن من أهلها وحملتها آمين يا رب العالمين. وصلّى الله على محمد خاتم النبيين ، وسلم تسليما كثيرا.
فمن نازعنا في هذا القول وادعاه لنفسه فنحن في ميدان النظر وحمل الأقوال على السير بالبراهين ، فسنزيف (١) الباطل والدعاوى التي لا دليل عليها حيثما كانت ، وبيد من كانت ، ويلوح الحق ثابتا حيثما كان وبيد من كان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________________
(١) زيّف قوله أو رأيه : فنّده وأظهر باطله (المعجم الوسيط : ص ٤٠٩).