الكذب دون أن يأمركم به من يسقط عنكم اللّوم بطاعته ، فأنتم لا عذر لكم على خلاف حكمنا في ذلك.
ثم أنتم لا تخلون من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إما أن تطووا هذا السر عن كل أحد فتصيرون إلى ما ألزمناكم من أن قطع الصدق جملة فضيلة ، وأن الكذب على الجملة حق واجب ، وهذا هو الذي ألزمناكم ضرورة.
وإمّا أن تبوحوا بذلك لمن وثقتم به فهذا إن قلتم به يوجب ضرورة كشف سركم في ذلك ، لأنه لا يجوز البتة أن ينكتم أصلا على كثرة العارفين به ، هذا أمر يعلم بالضرورة ، أن الشيء إذا كثر العارفون به فبالضرورة لا بد من انتشاره ، فإن كنتم تقولون إن طيّه واجب إلا عمن يوثق به ، وفي كشفه إلى من يوثق به ما يوجب انتشاره إلى من لا يوثق به فقد رجعتم إلى وجوب كشفه ، لأن كشفه البتة هو نتيجة كشفه إلى خاص دون عام ، وفي كشفه بطلان ما دبرتموه صلاحا ، فقد بطل حكمكم بالضرورة ، لا سيما والقائلون بهذا القول مجدون في كشف سرهم هذا إلى الخاص والعام ، فقد أبطلوا علّتهم جملة وتناقضوا أقبح تناقض ، وعلى كل ذلك فقد صار الباطل والكذب لا يتم الخير والفضائل البتة في شيء من الأشياء إلّا بهما ، وهذا خلاف الفلسفة جملة.
وأيضا فإن كانت الشرائع موضوعة فليس ما وضعه واضع ما بأحق بأن يتّبع ممّا وضعه واضع آخر ، هذا أمر يعلم بالضرورة.
وقد علمنا بموجب العقل وضرورته أن الحق لا يكون من الأقوال المختلفة والمتناقضة إلّا في واحد ، وسائرها باطل. فإذ لا شك في هذا فأي تلك الموضوعات هو الحق أم أيها هو الباطل؟ ولا سبيل إلى أن يأتوا بما يحق منها شيئا دون سائرها أصلا ، فإذ لا دليل على صحة شيء منها بعينه فقد صارت كلها باطلة ، إذ ما لا دليل على صحته فهو باطل ، وليس لأحد أن يأخذ بقول ويترك غيره بلا دليل فبطل بهذا بطلانا ضروريا كل ما تعلقوا به والحمد لله رب العالمين ، وبطل بهذا البرهان الضروري ما توهمه هؤلاء الجهال المجانين ، وصح يقينا أن الشرائع صحاح من عند منشئ العالم ومدبره الذي يريد بقاءه إلى الوقت الذي سبق في علمه تعالى أنه يبقيه إليه كما هو ، وإذ ذلك كذلك ضرورة لا يخلو الحكم في ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أن تكون الشرائع كلها حقا ـ قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) ـ وقد رأيت منهم من يذهب إلى هذا.