وإمّا أن تكون موضوعة باتفاق من أفاضل الحكماء لسياسة الناس بها وكفّهم عن التظالم والرذائل.
فإن كانت موضوعة كما يقول هؤلاء المخاذيل ، فقد تيقنا أن ما ألزموا الناس من ذلك كذب لا أصل له ، وزور مختلق ، وإيجاب لما لا يجب ، وباطل لا حقيقة له ، ووعيد ووعد كلاهما كذب ، فإن كان ذلك كذلك فقد صار الكذب هو أرذل الرذائل وأعظم الشر لا يتم صلاح العالم الذي هو الغرض من طلب الفضائل إلا به ، وإذ ذلك كذلك ، فقد صار الحق باطلا ، والصدق رذيلة وصار الباطل حقا وصدقا ، والكذب فضيلة ، وصار لا قوام للعالم أصلا إلا بالباطل ، وصار الكذب نتيجة الحق ، وصار الباطل ثمرة الصدق ، وصار الغرور والغش والخديعة فضائل ونصيحة ، وهذا أعظم ما يكون من المحال والممتنع والخلف (١) الذي لا مدخل له في العقل ، فإن قالوا إنه لو كشف السرّ في ذلك إلى العامة لم ترغب في الفضائل ، فوجب لذلك أن يؤتى بما ترهبه وتتقيه ، فاضطرّ في ذلك إلى الكذب لهم كما يفعل بالصبيان ، وكما أبحتم أنتم في شرائعكم كذب الرجل لامرأته ليستصلحها بذلك ، وفي دفاع الظالم على سبيل التقية ، وفي الحرب كذلك فيلزمكم في هذا ما ألزمتموه إيانا من أن الكذب صار حقا وفضيلة.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فيقال لهم وبالله التوفيق :
أما نحن فقولنا : إنه ليس ـ كما ذكرتم ـ قبيحا ، إذ أباحه الله عزوجل الذي لا حسن إلّا ما حسّن وما أمر به ، ولا قبيح إلا ما قبّح وما نهى عنه ، ولا آمر فوقه ، فلا يلزمنا ما أردتم إلزامنا إياه.
ثم أيضا على أصولكم فإنه ليس ما ذكرتم معارضة ، ولا ما شبهتم به مشبها لما شبهتموه به ، لأننا إنما أبحنا الكذب في الوجوه التي ذكرتم للضرورة الدافعة إلى ذلك بالنص الوارد علينا بذلك كما جاز بالنص عند الضرورة دفع القتل عن النفس بقتل المريد لقتلها ، ولو أمكننا كفّ الصبي والمرأة بغير ذلك لما جاز أصلا فإذا ارتفعت الضرورة وجب الرجوع إلى استعمال الصدق على كل حال ، ولو لا النص لم نبح شيئا من ذلك ولا حرمناه ، وأنتم فيما تدعونه من مداراة الناس كلهم مبتدئون لاختيار
__________________
(١) الخلف (بضم الخاء) في علم الفلسفة : المحال الذي ينافي المنطق ويخالف المعقول (المعجم الوسيط : ص ٢٥١).