فحق كما ذكرنا قبل ، ولا سبيل إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزّلين بعد تبديلهما إلا بالإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل حقا لإيمانهم بالمنزّل فيهما وجحدهم ما لم ينزل فيهما وهذه هي إقامتهما حقا.
وأما قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [سورة النساء : ٤٧].
فنعم ، هذا عموم قام البرهان على أنه مخصوص ، وأنه تعالى : إنما أراد مصدقا لما معكم من الحق ، لا يمكن غير هذا ، لأننا بالضرورة ندري أن معهم حقا وباطلا ، ولا يجوز تصديق الباطل البتة ، فصح أنه إنما أنزله تعالى مصدقا لما معهم من الحق.
وقد قلنا : إن الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقا ليكون حجة عليهم وزائدا في خزيهم ، وبالله تعالى التوفيق ، فبطل تعلقهم بشيء مما ذكرنا والحمد لله رب العالمين.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون بجهلهم القول بأن التوراة والإنجيل الذين بأيدي اليهود والنصارى محرفان وإنما حملهم على هذا قلة اهتبالهم (١) بنصوص القرآن والسنن ، أترى هؤلاء ما سمعوا قول الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة آل عمران : ٧١]. وقوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : ٤٦] وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة آل عمران : ٧٨] إلى آخر الآية. وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [سورة المائدة : ١٣].
ومثل هذا في القرآن كثير جدّا. ونقول لمن قال من المسلمين إن نقلهم نقل تواتر يوجب العلم وتقوم به الحجة : لا شك في أنهم لا يختلفون في أن ما نقلوه من ذلك عن «موسى» و «عيسى» عليهماالسلام لا ذكر فيه لمحمد صلىاللهعليهوسلم أصلا ، ولا إنذار بنبوته ، فإن صدّقهم هؤلاء الغافلون في بعض نقلهم فواجب أن يصدقهم في سائره ، أحبّوا أم كرهوا ، وإن كذّبوهم في بعض نقلهم وصدقوهم في بعض فقد تناقضوا ، وظهرت مكابرتهم. ومن الباطل أن يكون نقل واحد جاء مجيئا واحدا بعضه حق وبعضه
__________________
(١) يريد : تمسكهم.