وكم عرض لنا هذا مع علمائهم في مناظراتنا لهم قبل أن نقف على نصوص التوراة ، فالقوم لا مئونة عليهم من الكذب حتى الآن إذا طمعوا بالتخلص من مجلسهم لا يكون ذلك إلّا بالكذب ، وهذا خلق خسيس ، وعار لا يرضى به مصحح ، ونعوذ بالله من مثل هذا.
وأما قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) [المائدة : ٤٤].
فنعم. هذا حق على ظاهره كما هو ، وقد قلنا : إن الله تعالى أنزل التوراة ، وحكم بها النبيون الذين أسلموا «كموسى» و «هارون» و «داود» و «سليمان» ومن كان بينهم من الأنبياء عليهمالسلام ، ومن كان في أزمانهم من الربانيين والأحبار الذين لم يكونوا أنبياء بل كانوا حكما من قبل الأنبياء عليهمالسلام ، قبل حدوث التبديل ، هذا نص قولنا ، وليس في هذه الآية أنها لم تبدّل بعد ذلك أصلا ، لا بنصّ ولا بدليل ، وأمّا من ظن لجهله من المسلمين أن هذه الآية نزلت في رجم النبي صلىاللهعليهوسلم لليهوديين اللّذين زنيا وهم محصنان فقد ظن الباطل ، وقال بالكذب ، وتأوّل المحال ، وخالف القرآن ، لأن الله تعالى قد نهى نبينا عليهالسلام عن ذلك نصّا بقوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المائدة : ٤٨].
وقال عزوجل : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) [المائدة : ٤٩].
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فهذا نص كلام الله عزوجل الذي ما خالفه فهو باطل ، وأما قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة : ٤٧] فحق على ظاهره لأن الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، واتباع دينه ، ولا يكونون أبدا حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلّا باتباعهم دين محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإنما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه ، فهم أهله ، ولم يأمرهم قط تعالى بما يسمى إنجيلا ، وليس بإنجيل ، ولا أنزله الله تعالى كما هو قط. فالآية موافقة لقولنا ، وليس فيها أن الإنجيل لم يبدّل لا بنص ولا بدليل ، إنما فيها إلزام النصارى الذين يتسمّون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه ، وهم على خلاف ذلك.
وأما قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٤٧].