قدمنا ـ لازمة لكل ذي كل ، وذي أجزاء. والزمان إنما هو مدة بقاء الجرم ساكنا ، أو متحركا ، ولو فارقه لم يكن الجرم موجودا ، ولا كان الزمان أيضا موجودا ، والجرم والزمان موجودان فكلاهما لم يفارق صاحبه. والزمان ذو أول ، فالجرم ذو أول ، وهذا مما لا انفكاك له البتة.
وأمّا ما لم يأت بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئا ، فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا نهاية ، ولا يوصف بشيء أصلا لأنه لا وجود له بعد. فإذا وجد لزمه حينئذ ما لزم سائر ما قد وجد من أجناسه وأنواعه ، من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات.
وأيضا فلا شك في أن ما وقع ووجد من الزمان إلى يومنا هذا مساو لما هو من يومنا هذا إلى ما وقع من الزمان معكوسا. وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان. والمساوي لا يقع إلا في ذي نهاية ، فالزمان متناه ضرورة.
وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني (١) في هذا البرهان ، فأراد أن يعكسه على بقاء الباري عزوجل (٢) ووجودنا إياه. فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط ، لأن الباري تعالى ليس في زمان ، ولا له مدة ولا فناء لأن الزمان إنما هو حركة كلّ ذي الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان ، أو مدة بقائه ساكنا في مكان واحد. والباري تعالى ليس متحركا ولا ساكنا ، فلا شك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا فناء ، ولا هو في مكان أصلا ، وليس هو جرما ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، ولا عددا ، ولا جنسا ، ولا نوعا ، ولا فصلا ، ولا شخصا ، ولا متحركا ، ولا ساكنا ، وإنما هو تعالى حق في ذاته ، موجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره ، واحد لا واحد في العالم سواه ، مخترع للموجودات كلها دونه ، لا يشبه شيئا من خلقه بوجه من الوجوه. وبالله تعالى التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل وحصره في قوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [سورة فاطر : ١].
__________________
(١) ثابت بن محمد الجرجاني العدوي الأندلسي أبو الفتوح. نحوي أديب عالم بالمنطق. رحل إلى الأندلس وقتل بالمغرب لليلتين بقيتا من المحرم سنة ٤٣١ ه. من آثاره : شرح الجمل في النحو للزجاجي. انظر إنباه الرواة (١ / ٢٦٣ ، ٢٦٤) وبغية الوعاة (ص ٢١٠) وكشف الظنون (ص ٦٠٤).
(٢) أي يريد أن ينقل هذا الدليل على محدودية الزمان إلى الله تعالى.