هذا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم مذ ألوف من الأعوام ، قد سرى الفخر ، والعزّ ، والنخوة ، والكبر ، والظلم ، والأنفة ، في طباعهم وهم أعداد عظيمة قد ملئوا جزيرة العرب ، وهي نحو شهرين في شهرين ، قد صارت طباعهم طباع السباع ، وهم ألوف الألوف ، قبائل وعشائر يتعصب بعضهم لبعض أبدا ، فدعاهم بلا مال ولا أتباع ، بل خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة ، ومن الحرّية والظلم إلى جري الأحكام عليهم ، ومن طول الأيدي بقتل من أحبوا ، وأخذ مال من أحبّوا إلى القصاص من النفس. ومن قطع الأعضاء ، ومن اللطمة من أجلّ من فيهم لأقل علج غريب دخل فيهم ، وإلى إسقاط الأنفة والفخر ، إلى ضرب الظهور بالسياط أو بالنّعال إن شربوا خمرا ، أو قذفوا إنسانا ، وإلى الضرب بالسياط والرّجم بالحجارة إلى أن يموتوا إن زنوا ، فانقاد أكثرهم لكل ذلك طوعا بلا طمع ولا غلبة ولا خوف ، وما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة وخيبر فقط ، وما غزا قط غزوة يقاتل فيها إلا تسع غزوات ، بعضها عليه ، وبعضها له ، فصحّ ضرورة أنّهم إنما آمنوا به طوعا لا كرها ، وتبدّلت طبائعهم بقدرة الله تعالى من الظلم إلى العدل ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن العسف والقسوة إلى العدل العظيم الذي لم يبلغه أكابر الفلاسفة ، وأسقطوا كلهم أولهم عن آخرهم طلب الثأر ، وصحب منهم الرّجل قاتل أبيه وابنه ، وأعدى الناس له ، صحبة الإخوة المتحابين دون خوف يجمعهم ، ولا رئاسة ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم ، ولا مال يتعجلونه.
فقد علم الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكيف كانت طاعة العرب لهما بلا رزق ولا عطاء ولا غلبة ، فهل هذا إلّا بغلبة من الله تعالى على نفوسهم ..؟ وقسره عزوجل لطباعهم ، كما قال تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [سورة الأنفال : ٦٣].
ثم بقي عليهالسلام كذلك بين أظهرهم بلا حرس ، ولا ديوان جند ، ولا بيت مال محروسا معصوما ، وهكذا نقلت آياته ومعجزاته ، فإنّما يصح من أعلام الأنبياء عليهمالسلام المذكورين ما نقله هو عليهالسلام لصحة الطريق إليه ، وارتفاع دواعي الكذب والعصبية جملة عن أتباعه فيه ، فجمهورهم غرباء من غير قومه لم يمنّهم بدنيا ، ولا وعدهم بملك ، وهذا ما لا ينكره واحد من الناس.
وأيضا فإنّ سيرة محمد صلىاللهعليهوسلم لمن تدبّرها تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله حقّا ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلىاللهعليهوسلم لكفى ، وذلك أنه عليهالسلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب ، ولا خرج عن تلك البلاد قط إلّا