خرجتين ، إحداهما : إلى الشام وهو صبيّ مع عمه إلى أرض الشام ورجع. والأخرى : أيضا إلى أول أرض الشام ، ولم يطل بها البقاء ، ولا فارق قومه قط ، ثم أوطأه الله تعالى على رقاب العرب كلّهم ، فلم تتغيّر نفسه ، ولا حالت سيرته إلى أن مات ، ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ، ولم يبت قط في ملكه درهم ولا دينار ، وكان يأكل على الأرض ما وجد ، ويخصف نعله بيده ، ويرقع ثوبه ، ويؤثر على نفسه. وقتل رجل من أفاضل أصحابه ـ وفقد مثله يهدّ عسكرا ـ قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى أذى أعدائه بذلك ، إذ لم يوجب ربه تعالى له ذلك ، ولا توصل بذلك إلى دمائهم ، ولا إلى دم أحد منهم ، ولا إلى أموالهم بل وداه من عند نفسه بمائة ناقة ، وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوّى به ، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا ، من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه ، ولا يقتضي هذا أيضا ظاهر السيرة والسياسة ، فصحّ يقينا بلا شك أنه إنما كان متّبعا ما أمره به ربه عزوجل كان ذلك مضرّا به في دنياه غاية الإضرار أو كان غير مضرّ به ، وهذا عجب لمن تدبره. ثم حضرته المنية ، وأيقن بالموت وله عمّ أخو أبيه هو أحب الناس إليه ، وابن عمّ هو من أخصّ الناس به ، وهو أيضا زوج ابنته التي لا ولد له غيرها ، وله منها ابنان ذكران وكلا الرجلين الذكورين عمه وابن عمه عندهما من الفضل في الدين ، والسياسة في الدنيا ، والبأس والحلم ، وخلال الخير ما كان كل واحد منهما حقيقا بسياسة العالم كله ، فلم يحابهما ، وهما من أشدّ الناس غناء به ومحبة فيه ، وهو من أحبّ الناس فيهما ، إذ كان غيرهما متقدّما لهما في الفضل وإن كان بعيد النسب منه ، بل فوّض الأمر إليه قاصدا إلى أمر الحق ، واتباع ما أمر به ، ولم يورث ورثته ، ابنته ونساءه وعمه فلسا فما فوقه ، وهم كلهم أحب الناس إليه ، وأطوعهم له ، وهذه أمور لمن تأملها كافية مغنية في أنه إنّما تصرّف بأمر الله عزوجل له ، بسياسة لا بهوى ، فوضح ما ذكرنا والحمد لله كثيرا أن نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم حق وأن شريعته التي أتى بها هي التي وضحت براهينها ، واضطرت دلائلها إلى تصديقها ، والقطع على أنّها الحق الذي لا حقّ سواه ، وأنّها دين الله تعالى الذي لا دين له في العالم غيره ، والحمد لله رب العالمين عدد خلقه ، ورضى نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، على ما وفقنا من الملّة الإسلامية ، ثم على ما يسّرنا عليه من النّحلة الجماعية السنية ، ثم على ما هدانا له من التدين ، والعمل بظاهر القرآن وبظاهر السنن الثابتة عنه صلىاللهعليهوسلم عن باعثه عزوجل ، ولم يجعلنا ممن يقلد أسلافه وأحباره ، دون برهان قاطع ، وحجة قاهرة ، ولا ممن يتّبع الأهواء المضلّلة ،