فالأول : وهو الذي يعتمد عليه هو البرهان الضروري قد قدمناه ، على أنّ الله عزوجل خلق الأشياء وابتدعها مخترعا لها لا من شيء ، ولا على أصل متقدّم ، وإذ لا شك في هذا فليس شيء متوهم أو مسئول عنه يتعذّر من قدرة الخالق عزوجل إذ كان ما شاء كوّنه. ولا فرق بين خلقه عزوجل ، كل ذلك في هذه الدار ، وبين خلقه كذلك في الدار الآخرة.
وقد أخبرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي قامت البراهين الضرورية على أن الله عزوجل بعثه إلينا ، ووسّطه للتبليغ عنه وعلى صدقه فيما أخبر به : أنّ الأكل والشرب واللباس والوطء هنالك ، وكان هذا الخبر قبل أن يخبرنا به الصادق عليهالسلام داخلا في حدّ الممكن لا في حدّ الممتنع ، ثم لما أخبرنا به الله عزوجل على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم صحّ علمنا به ضرورة فبان أنه في حدّ الواجب.
وأمّا الجواب الثاني : فهو أنّ الله عزوجل خلق أنفسنا ورتّب جواهرها وطباعها الذاتية رتبة لا تستحيل البتة على التذاذ المطاعم والمشارب والرّوائح الطيبة ، والمناظر الحسنة ، والأصوات المطربة ، والملابس المعجبة على حسب موافقة كل ذلك لجوهر أنفسنا ، هذا ما لا مدفع فيه ، ولا شك في أنّ النفوس هي المتلذّذة بكل ما ذكرنا ، وأنّ الحواسّ الجسدية هي المنافذ الموصلة لهذه الملاذ إلى النفوس ، وكذلك المكاره كلها. وأمّا الجسد فلا حسّ له البتة ، فهذه طبيعة جوهر أنفسنا التي لا سبيل إلى وجودها دونها ، فإذا جمع الله تعالى يوم القيامة في عالم الجزاء بين أنفسنا وبين الأجساد المركبة لها وعادت كما ذكرنا جوزيت هنالك ، ونعمت بملاذها وبما تستدعيه طباعها التي لم توجد قط إلّا كذلك ، ولا لها لذة سواها ، إلّا أن الطعام الذي هنالك غير معانى بنار ، ولا ذو آفات ، ولا مستحيل قذرا ودما ، ولا ذبح هنالك ، ولا آلام ولا تغيّر ، ولا موت ولا فساد ، وقد قال تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [سورة الواقعة : ١٩].
وتلك الملابس غير محوكة بنسيج ولا فانية ولا متغيرة ولا تقبل البلى ، وتلك الأجساد لا كدر فيها ولا خلط ولا دم ولا أذى ، وتلك النفوس لا رذيلة فيها من غلّ ولا حسد ولا حرص قال الله عزوجل : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [سورة الحجر : ٤٧].
وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن المخرجين من النار أنهم يطرحون في نهر على باب الجنة. فإذا نقّوا وهذّبوا ـ هذا نص لفظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (١). ثم بعد التنقية أخبر
__________________
(١) رواه البخاري في المظالم باب ١ (حديث ٢٤٤٠) والرقاق باب ٤٨ (حديث ٦٥٣٥) عن أبي