ملتنا المقربين بالقرآن ، وأمّا سائر الملل فلسنا نكلمهم في هذا ، لأنها نتيجة مقدمات سوالف ، ولا يجوز الكلام في النتيجة إلّا بعد إثبات المقدّمات ، فإن ثبتت المقدّمات ثبتت النتيجة ، والبرهان لا يعارضه برهان ، فكل ما ثبت ببرهان فعورض بشيء فإنّما هو شغب بلا شك ، وإن لم تصح المقدّمات فالنتيجة باطلة دون تكلف دليل. ومقدّمات ما ذكرنا هي إثبات التوحيد ، وحدوث العالم بنقل الكواف لنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن فإن ذكروا الآيات التي في القرآن مثل (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) «لعلّكم تؤمنون» (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ونحو ذلك فإنما هي كلها بمعنى لام العاقبة أي ليتذكر ، ولتؤمنوا ، وليشكروا وليتذكروا ، وليخشى ، على ظاهر الأمر عندنا من إمكان كل ذلك منا كما قال عزوجل : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [سورة الملك : ٢].
وقال عزوجل : (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) [سورة غافر : ٦٧].
فهذا أيضا على الإمكان ممّن عاش ، والأول على الممكن من الناس عند الخطاب والدّعاء إلى الله تعالى ، وكذلك كل ما جاء في القرآن بلفظة «أو» فإنما هو على أحد وجهين إمّا على الشّك من المخاطبين لا من الله تعالى ، وإمّا بمعنى التخيير في الكل كقول القائل : «جالس الحسن أو ابن سيرين».
برهان ذلك : ورود النص بأنه تعالى لا يضلّ ولا ينسى ، وأنه قد علم أن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب ، وكما قال تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [سورة هود : ٣٦].
وبهذا تتآلف النصوص كلها ، فلم يبق لأهل القول بحدوث العلم إلّا أن يقولوا إنه تعالى خلق شيئا ما كان حاملا لعلمه بالسّاعة.
قال أبو محمد : وهذا من السخف ما هو من العلم لأن علم الله تعالى لا يقوم بغيره ، ولا يحمله سواه ، هذا أمر يعلم بالضرورة والحسّ ، فمن ادّعى دعوة لا يأتي عليها بدليل فهي باطلة فكيف إذا أبطلها الحسّ وضرورة العقل ، ويبيّن ما قلناه نصا قوله تعالى حاكيا عن نبيه موسى صلىاللهعليهوسلم أنه قال لبني إسرائيل : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف : ١٢٩].
هذا مع قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ