أصحاب المقالات ، فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة ، وظالما لخصمه في أن لم يوفه حقّ اعتراضه ، وباخسا حقّ من قرأ كتابه إذ لم يفنّد به غيره.
وكلّهم ـ إلّا تحلّة القسم ـ عقّد كلامه تعقيدا يتعذّر فهمه على كثير من أهل الفهم وحلّق على المعاني من بعد ، حتى صار ينسي آخر كلامه أوّله. وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد معانيهم ، فكان هذا منهم غر محمود في عاجله وآجله» (١).
ويبدو فنّ الجدل عند ابن حزم وكأنه مطيّة امتلك زمامها فسلس قيادها ، ويبدو هذا واضحا في تضاعيف كتابه ، وخاصة عند مناقشته لنصوص من التوراة والإنجيل ، فيبيّن ما في هذه النصوص من تحريف وتخبّط وتخليط ، ففي أحد أسفار التوراة يعدّد واضعوه أولاد لاوي والجنود الذين ينتسبون إليهم ، وفي سفر آخر تأتي هذه الأعداد بشكل مخالف بالزيادة أو بالنقص ؛ وكذلك الحال بالنسبة للمدن ورؤساء العشائر. ويذكر سفر آخر من أسفار التوراة أن عدد بني إسرائيل كان عند خروجهم من مصر ستمائة ألف ونيّف ، فيناقش ابن حزم هذا العدد ويبيّن استحالته في موجب العقل ، إلى استحالات أخرى تتّضح للقارىء عند اطلاعه على هذا الكتاب.
ولا يفوتنا أن نشير إلى حدّة ابن حزم وانفعاله الزائد عند عرض آراء خصومه ومناقشتها ، حتى ليدفعه هذا إلى استعمال تعابير أقل ما يقال فيها إنها جارحة في كثير من المواضع ، كقوله : «فعليهم ما يخرج من أسافلهم» ، وقوله : «ولو لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة وحدها لكفت في أنها موضوعة مبدّلة من حمار في جهله» ، «وأراد أن يخرج هذا الساقط من مزبلة فوقع في كنيف عذرة» ، «وما افتراه الكفرة أسلافهم الأنتان» ، «لقد كان الثور أهدى منه والحمار أنبه منه بلا شكّ» إلى غير ذلك من التعابير التي لا تكاد تخلو صفحة منها. ولا شكّ أن هذه الحدّة ناشئة عن إخلاصه العميق لما يؤمن به ، ونفوره البالغ مما يعتنقه خصومه.
ونكتفي هنا بما أوردناه من هذه العجالة في الكلام على هذا الكتاب الفريد ، داعين القارئ الكريم إلى الاطّلاع عليه بتأنّ وعناية ، ونقدّم ـ قبل عرض الكتاب ـ ترجمة موجزة للمؤلف.
والحمد لله أولا وآخرا ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين.
أحمد شمس الدين
بيروت ١٥/ ٩/ ١٩٩٥
__________________
(١) انظر مقدمة الفصل (ص ١١ و ١٢).