ممكن في قدرة الله تعالى ، ولم يأت خبر صادق بخلافه ، لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليهالسلام وسفينته حين الطوفان : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [سورة هود : ٤٠]. ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليهالسلام مأمورا بأن يحمل من كلّ زوجين اثنين ، ولا يمنع ذلك من بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم.
وإنما نقول فيما لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة فقط.
وبرهان آخر : وهو أنه لو كان إخراج الله تعالى لكل ما في العالم ، من المعلوم ، والعلماء بها ، والصناعات ، والصانعين لها ، دفعة واحدة لكان ذلك بضرورة العقل وأوله (١) لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أن يكون ذلك بوحي إعلام وتوقيف منه تعالى.
وإمّا بطبع مركب فيهم يقتضي لهم ما علموا من ذلك ما صنعوا.
فإن كان بوحي إعلام وتوقيف فقد صحت النبوة لجميعهم ، إذ ليست النبوة معنى غير هذا ، وهذه دعوى ممن قال بهذا القول بلا دليل ، وما لا دليل عليه فهو باطل ، لا يجوز القول به ، لا سيما والقائلون بها منكرون للنبوة ، فلاح تناقض قولهم.
وإن كان كل ذلك عن طبيعة تقتضي لهم كونهم عالمين بالعلوم ، متكلمين باللغة متصرفين في الصناعات بلا تعليم ولا توقيف ، فهذا محال ضرورة ، وممتنع في العقل وفي الطبيعة ، إذ لو كان ذلك لوجدوا أبدا كذلك ، إذ الطبيعة واحدة لا تختلف وبالضرورة ندري أنه لا يوجد أحد أبدا في شيء من الأزمان ولا في مكان أصلا يأتي بعلم من العلوم لم يعلّمه إياه أحد ، ولا يتكلم بلغة لم يعلّمه إيّاها أحد ، ولا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عليها أحد.
وبرهان ذلك ما قدمنا قبل من أن البلاد التي ليست فيها العلوم وأكثر الصناعات كأرض الصقالبة (٢) ، والسودان ، والبوادي التي في خلال المدن ليس يوجد فيها أبدا أحد يدري شيئا من العلوم ولا من الصناعات حتى يعلمه ذلك معلم ، وأنه لا ينطق أحد
__________________
(١) أوائل العقل : بديهياته.
(٢) الصقالبة : جيل من الناس كانت مساكنهم إلى الشمال من بلاد البلغار ، وانتشروا الآن في كثير من شرق أوروبا ، وهم المسمّون الآن بالسّلاف. انظر المعجم الوسيط (ص ٥١٩).