لم يظهر (١) ، وعلمنا بكل ما قدمنا أنه تعالى مرتب هذه المراتب التي في العالم ومجريها على طبائعها المعلومة منا الموجودة عندنا ، وأنه لا فاعل على الحقيقة غيره تعالى ، ثم رأينا خلافا لهذه الرتب والطبائع قد ظهرت ، ووجدنا طبائع قد أحيلت ، وأشياء في حدّ الممتنع قد وجبت ووجدت (٢) ، كصخرة انفلقت عن ناقة (٣) ، وعصا انقلبت حية (٤) ، وميّت أحياه إنسان (٥) ، ومئين من الناس رووا وتوضئوا كلهم من ماء يسير في قدح صغير يضيق عن بسط اليد فيه ، لا مادة له (٦) ، فعلمنا أن محيل هذه الطبائع ، وفاعل هذه المعجزات هو الأول الذي أحدث كل شيء. ووجدنا هذه القوى قد أصحبها الله تعالى رجالا يدعون إليه ، ويذكرون أنه تعالى أرسلهم إلى الناس ، ويستشهدون به تعالى فيشهد لهم بهذه المعجزات المحدثة منه تعالى ، في حين رغبة هؤلاء القوم إليه فيها ، وضراعتهم إليه في تصديقهم بها ، فعلمنا علما ضروريا يقينيا لا مجال للشك فيه أنهم مبعوثون من قبله عزوجل ، وأنهم صادقون فيما أخبروا به عنه تعالى ، إذ لا سبيل في طبيعة مخلوق في العالم إلى التحكم على البارئ ، ولا على طبائع خلقه مثل هذا ، ووجوب النبوة إذ ظهر على مدّعيها معجزة من إحالة الطبائع المخالفة لما بني عليه العالم.
وقد تكلمنا في غير هذا المكان على أنّ هذه الأشياء لها طرق توصل إلى صحة اليقين بها عند من لم يشاهدها كصحتها عند من شاهدها ولا فرق. وهي نقل الكافة التي قد استشعرت العقول ببدايتها والنفوس بأوّل معارفها أنه لا سبيل إلى جواز الكذب
__________________
(١) أي أن كل شيء موجود بالقوة والإمكان قادر على أن يجعله موجودا بالفعل.
(٢) وهي المعجزة.
(٣) يشير إلى ناقة صالح عليهالسلام.
(٤) وهي عصا موسى عليهالسلام.
(٥) أحياه عيسى عليهالسلام بإذن ربّه ، قال تعالى في الآية ٤٩ من سورة آل عمران على لسان عيسى عليهالسلام : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ).
(٦) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوا ، فأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم بوضوئه ، فوضع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضئوا منه ، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه ، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخره. رواه البخاري في الوضوء باب ٣٢ ، ٤٦ ، والمناقب باب ٢٥. ومسلم في الفضائل حديث ٤ و ٥. والنسائي في الطهارة باب ٦٠. والدارمي في المقدمة باب ٥. ومالك في الطهارة حديث ٣٢. وأحمد في المسند (٣ / ١٣٢).