قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عزوجل يقول : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء : ١٦٥] ، وإنما يخاطب الله بالحجة من يعقلها قال الله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ). وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق الذي هو التصرف في العلوم ، ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها ـ الإنسان خاصة. وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن ، وأضفنا إليهم بالخبر الصادق ، وببراهين أيضا ضرورية الملائكة ، وإنما شارك من ذكرنا سائر الحيوان في الحياة خاصة وهي الحس والحركة الإرادية ، فعلمنا بضرورة العقل أن الله تعالى لا يخاطب بالشرائع إلّا من يعقلها ويعرف المراد بها ، وبقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [سورة البقرة : ٢٨٦]. ووجدنا جميع الحيوان حاشا الناس يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معاشها وتناسلها ، لا يجتنب منها واحد شيئا يفعله غيره. هذا الذي يدرك حسا فيما يعاشر الناس في منازلهم من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك. وليس الناس في أحوالهم كذلك ، فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع وبطل قول ابن حابط. وصح أن معنى قول الله تعالى : (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي أنواع أمثالكم ، إذ كل نوع يسمى أمة. وأن معنى قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) إنما عنى تعالى تلك الأمم من الناس ، وهم القبائل والطوائف ، ومن الجن لصحة وجوب العبادة عليهم. فإن قال قائل : فما يدريك لعل سائر الحيوان له نطق وتمييز؟
قيل له وبالله التوفيق : بقضية العقول وبديهيّها عرفنا الأشياء على ما هي عليه ، وبها عرفنا الله عزوجل وصحة النبوات وهي التي لا يصح شيء إلّا بموجبها. فما عرف بالعقل وجوبه فهو واجب بيننا ـ نريد في الوجود في العالم ـ وما عرف بالعقل أنه محال فهو محال في العالم ، وما وجد بالعقل إمكانه فجائز أن يوجد ، وجائز أن لا يوجد ، وبضرورة العقل والحس علمنا أن كل نوعين واقعين تحت جنس واحد فإن ذلك الجنس يعطيهما اسمه وحدّه عطاء مستويا. فلما كان جنس الحي يجمعنا مع سائر الحيوان استوينا معها كلها استواء لا تفاضل فيه ، فما اقتضاه اسم الحياة من الحس والحركة الإرادية ، وهذان المعنيان هما الحياة لا حياة غيرهما أصلا. وعلمنا ذلك بالمشاهدة لأننا رأينا الحيوان يألم بالضرب والنخس ، ويحدث لها من الصوت والقلق ما يحقق ألمها كما نفعل نحن ولا فرق. ولذلك لما تشاركنا والحيوان وجميع الشجر والنبات في النماء استوى جميع الحيوان فيما اقتضاه اسم النمو من طلب الغذاء ، واستحالته في المتغذّى به إلى نوعه ، ومن طلب بقاء النوع مع جميع الشجر والنبات استواء واحدا لا تفاضل فيه.