حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة ، من الكتاب والسنّة ، إذ كان في أحكام الله فيهما ما لا يتوصّل إليه إلاّ بالاجتهاد ، ولا يوجد في ظواهر النصوص ، فادّعاؤهم أنّ إلحاق الفروع بالأُصول في الحكم لعلّة يستخرجها القياس ، هو الاجتهاد الذي عناه في الخبر ، ممّا لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه. (١)
وثانياً : أنّ تجويز القياس في القضاء لا يكون دليلاً على تجويزه في الإفتاء ، لأنّ القضاء أمر لا يمكن تأخيره ، بخلاف الإفتاء ، فالاستدلال بجواز القياس في القضاء على جوازه في الإفتاء ، مبنيّ على صحّة القياس وهو دور واضح.
وثالثاً : أنّ القضاء منصب خطر إذ به تصان الدماء والأعراض والأموال ، كما به تباح النواميس والشئون الخطيرة ، فهل يمكن أن يبعث النبي رجلاً ويخوّل له النبي التصرف في مهام الأُمور ، باعمال الرأي من دون أن يحدّده على وجه يصونه عن الخطأ ومجانبة الواقع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المراد من الاجتهاد هو استخراج حكم الواقعة عن المصدرين بالتأمل فيهما ، لا إعمال الرأي بأقسامه المختلفة التي ربما لا تمس الواقع غالباً.
وهذا يكشف عن وجود خصوصية في معاذ تصدّه عن استعمال الرأي الخارج عن حدود الكتاب والسنّة ، وإلاّ لما خوله أمر القضاء من دون تحديده.
ويشهد على ما ذكرنا ما حكي من سيرة معاذ حيث إنّه لم يكن يجتهد برأيه في الأحكام وإنّما كان يتوقّف حتى يسأل النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ.
روى يحيى بن الحكم أنّ معاذاً قال : بعثني رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أُصدِّق أهلَ اليمن ، وأمرني أن آخذ من البقر من كلِّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً قال : فعرضوا عليّ أن آخذ من الأربعين فأبيت ذاك ، وقلت لهم : حتى أسأل
__________________
(١) الذريعة : ٢ / ٧٧٦.