عندهم فيه علم سألوا عنه ، ثمّ أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم ، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه أو أولى ، ترك قوله وعمل بغيره ، ثمّ كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل ويتبعون تلك السنن ، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادّعاؤها ، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا ، وهذا الذي مضى عليه من مضى منّا ، لم يكونوا من ذلك على ثقة ، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.
فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك ، واعلم أنّي أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلاّ النصيحة لله تعالى وحده ، والنظر لك والضن بك ، فانزل كتابي منك منزلته ، فإنّك إن فعلت تعلم أنّي لم آلك نصحاً. وفقنا الله وإيّاك لطاعته وطاعة رسوله في كلّ أمر وعلى كلّ حال. والسلام عليك ورحمة الله ، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر. (١)
ولم تكن رسالة مالك إلى الليث مقنعة لمن أتى بعده ، فقد رد عليه ابن حزم الظاهري قائلاً في إبطال قول من قال : الإجماع هو إجماع أهل المدينة ، فإنّ هذا قول لهج به المالكيون قديماً وحديثاً ، وهو في غاية الفساد ، لأنّ قولهم : إنّ أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله من سواهم كذب وباطل ، وإنّما الحقّ انّ أصحاب رسول الله وهم العالمون بأحكامه ، سواء بقى منهم من بقى بالمدينة ، أو خرج منهم من خرج لم يزد (٢) الباقي بالمدينة بقاءه فيها درجة في علمه وفضله ولا حطّ (٣) الخارج
__________________
(١) ترتيب المدارك : ١ / ٦٥٦٤.
(٢) في المطبوع : لم يرد ، وهو تصحيف.
(٣) في المطبوع : لاحظ ، وهو تصحيف.