وقال الآخرون : تكلّمت العرب بالكلام عاريا من الإعراب ، فلمّا عرض لهم اللبس أزالوه بالإعراب وهذا لا يليق بحكمتهم.
فصل : واختلفوا في حركات الإعراب : هل هي أصل لحركات البناء ، أم بالعكس ، أم كلّ واحد منهما في موضعه أصل؟
فذهب قوم إلى الأوّل ، وعلته : أن حركات الإعراب دوالّ على معان حادثة بعلّة بخلاف حركات البناء وما ثبت بعلّة أصل لغيره.
وذهب قوم إلى الثاني ، وعلّته : أن حركة البناء لازمة وحركة الإعراب منتقلة ، واللازم أصل للمتزلزل إذ كان أقوى منه وهذا ضعيف ؛ لأن نقل حركات الإعراب كان لمعنى ولزوم حركة البناء لغيره معنى.
وذهب قوم إلى الثالث ؛ لأن العرب تكلّمت بالإعراب والبناء في أول وضع الكلام ، وكلّ واحد منهما له علّة غير علّة الآخر ، فلا معنى لبناء أحدهما على الآخر.
فصل : وإنّما كان موضع حركة الإعراب آخر الكلمة لثلاثة أوجه :
أحدها : أنّ الإعراب جيء به لمعنى طارئ على الكلمة بعد تمام معناها وهو الفاعلية والمفعوليّة ، فكان موضع الدالّ عليه بعد استيفاء الصيغة الدالّة على المعنى اللازم لها وليس
__________________
ـ يدل عليه الإعراب كون الاسم فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه لأنه يفرق بين هذه المعاني وهذه المعاني تصح في الأسماء ولا تصح في الأفعال فعلم أنها ليست أصلا بل هي فرع محمول على الاسماء في ذلك.
واحتج الآخرون بأن الإعراب في الفعل يفرق بين المعاني فكان أصلا كاعراب الأسماء وبيانه قولك : اريد أن ازورك فيمنعني البواب. إذا رفعت كان له معنى وإذا نصبت كان له معنى وكذلك قولك : لا يسعني شيء ويعجز عنك إذا نصبت كان له معنى وإذا رفعت كان له معنى آخر وكذلك باب الجواب بالفاء والواو نحو :
لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وهو في ذلك كالاسم إذا رفعت كان له معنى وإذا نصبت أو جررت كان له معنى آخر.
والجواب : أما إعراب الفعل فلا يتوقف عليه فهم المعنى بل المعنى يدرك بالقرائن المحققة به والإشكال يحصل فيه بالحركة التي لا يقتضيها المعنى لا بعدم الحركة ألا ترى أن قوله : أريد أن أزورك فيمنعني البواب لو سكنت العين لفهم المعنى ، وإنما يشكل إذا نصبتها وإنما جاء الإشكال من جهة العطف لا بالنظر إلى نفس الفعل إذ لا فرق بين قولك : يضرب زيد في الضم والفتح والكسر والسكون فانه في كل حال يدل على الحدث والزمان.