و (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتدوا من عذاب يومئذ. وهذه الصفات خصائص المشركين ، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإسلام.
وهي ثلاثة : الإدبار والإعراض ، وجمع المال ، أي الخشية على أموالهم.
والإدبار : ترك شيء في جهة الوراء لأن الدّبر هو الظهر ، فأدبر : جعل شيئا وراءه بأن لا يعرج عليه أصلا أو بأن يقبل عليه ثم يفارقه.
والتولّي : الإدبار عن شيء والبعد عنه ، وأصله مشتق من الولاية وهي الملازمة قال تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] ، ثم قالوا : ولّى عنه ، أرادوا اتخذ غيره وليا ، أي ترك ولايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا : رغب فيه ورغب عنه ، فصار «ولي» بمعنى : أدبر وأعرض ، قال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم : ٢٩] أي عامله بالإعراض عنه.
ففي التولي معنى إيثار غير المتولّى عنه ، ولذلك يكون بين التولّي والإدبار فرق ، وباعتبار ذلك الفرق عطف و (تَوَلَّى) على (أَدْبَرَ) أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل. وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإدبار مرادا به إدبار غير تول ، أي إدبارا من أول وهلة ، ويكون التولي مرادا به الإعراض بعد ملابسة ، ولذلك يكون الإدبار مستعارا لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو حال الذين قال الله فيهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦] ، والتولي مستعار للإعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣١] وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعقاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين.
والمقصود من ذكرهما معا تفظيع أصحابهما ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلّق (أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) متّحدا يتنازعه كلا الفعلين ، ويقدر بنحو : عن الحق ، وفي «الكشاف» : أدبر عن الحق وتولى عنه ، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحدا.
ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلّق هو أشد مناسبة لمعناه ، فقدر البيضاوي : أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة ، أي لم يقبل الحق وهو الإيمان من أصله ، وأعرض عن طاعة