صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها ، وقد تكون للشيء الحالة وضدها باختلاف الأزمان والدواعي ، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حال مع تحقق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه ، وإذ ذكر الله الهلع هنا عقب مذمّة الجمع والإيعاء ، فقد أشعر بأن الإنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله : (خُلِقَ هَلُوعاً) كناية بالخلق عن تمكن ذلك الخلق منه وغلبته على نفسه.
والمعنى : أن من مقتضى تركيب الإدراك البشري أن يحدث فيه الهلع.
بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية ركّز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف ، وساعية إلى الملائم ومعرضة عن المنافر. وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإدراك في استخدامها كما يجب في حدود المقدرة البدنية التي أعطها النوع والتي أعطيها أفراد النوع ، كل ذلك ليصلح الإنسان لإعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه ليصلحه إصلاحا يشمله ويشمل من معه في هذا العالم إعدادا لصلاحيته لإعمار عالم الخلود ، ثم جعل له إدراكا يميز الفرق بين آثار الموجودات وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر. وخلق فيه إلهاما يحب النافع ويكره الضار ، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال وبعض الذوات قد يريه الحال النافع منها ولا يريه الحال الضارّ فيبتغي ما يظنه نافعا غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل ، أو شاعرا بذلك ولكن شغفه بحصول النفع العاجل يرجح عنده تناوله الآن لعدم صبره على تركه مقدّرا معاذير أو حيلا يقتحم بها ما فيه من ضر آجل. وإن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تستر عنه ضرّ الضار ونفع النافع فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكه أو تجنبه ، وقد لا تستر عنه ذلك ولكنها تحدث فيه إيثارا لاتباع الضار لملاءمة فيه ولو في وقت أو عند عارض ، إعراضا عن اتباع النافع لكلفة في فعله أو منافرة لوجدانه ، وذلك من اشتمال تركيب قواه الباعثة والصارفة وآلاتها التي بها تعمل وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها ، فحدثت من هذا التركيب والبديع صلاحية للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان ، وصلاحية لإفساد ذلك أو بعثرته.
غير أن الله جعل للإنسان عقلا وحكمة إن هو أحسن استعمالهما نخلت صفاته ، وثقّفت من قناته ، ولم يخله من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يريض جامح نفسه ، وكيف يوفق بين إدراكه وحسّه ، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء.