فإذا أخبر عن الإنسان بشدة تلبسه ببعض النقائص وجعل ذلك في قالب أنه جبل عليه فالمقصود من ذلك : إلقاء تبعة ذلك عليه لأنه فرط في إراضة نفسه على ما فيها من جبلة الخير ، وأرخى لها العنان إلى غاية الشر ، وفرط في نصائح الشرائع والحكماء.
وإذا أسند ما يأتيه الإنسان من الخير إلى الله تعالى فالمقصود : التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه ، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء: ٧٩] عقب قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨]. وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة ، وحلكت عليهم الأجواء ، ففكروا وقدّروا ، وما استطاعوا مخلصا وما قدروا.
واعلم أن كلمة (خلق الإنسان) إذا تعلق بها ما ليس من المواد مثل (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] بل كان من الأخلاق والغرائز قد يعنى بها التنبيه على جبلة الإنسان وأنها تسرع إلى الاعتلاق بمشاعره عند تصرفاته تعريضا بذلك لوجوب الحذر من غوائلها نحو (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) ، وقد ترد للعذر والرفق نحو قوله : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ، وقد ترد لبيان أصل ما فطر عليه الإنسان وما طرأ عليه من سوء تصرفه في أفعاله كما في قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٤ ـ ٥] فعل الخلق من كذا مستعار لكثرة الملابسة. قال عروة بن أذينة :
إن التي زعمت فؤادك ملّها |
|
خلقت هواك كما خلقت هوّى لها |
أراد إبطال أن يكون ملّها بحجة أنها خلقت حبيبة له كما خلق محبوبها ، أي إن محبته إياها لا تنفك عنه.
والهلع : صفة غير محمودة ، فوصف الإنسان هنا بها لوم عليه في تقصيره عن التخلق بدفع آثارها ، ولذلك ذيل به قوله : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) [المعارج : ١٨] على كلا معنييه.
وانتصب (جَزُوعاً) على الحال من الضمير المستتر في (هَلُوعاً) ، أو على البدل بدل اشتمال لأن حال الهلع يشتمل على الجزع عند مس الشر.
وقوله : (مَنُوعاً) عطف على (جَزُوعاً) ، أي خلق هلوعا في حال كونه جزوعا إذا مسه الشر ، ومنوعا إذا مسه الخير.