لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضيا عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] أعقبوا لتعريض الإقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقابا فأيقنوا أن عقاب الله لا يفلت منه أحد استحقه. وقدموه على الأمر بالإيمان الذي في قوله : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) [الجن : ١٣] الآية ، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحلية ، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ لم يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد ، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقاد الشرك ووصف الله بما لا يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه ، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيرا لإخوانهم ومرشدا إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن ، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإسلام.
وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف : ١٧٩] الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإشراك ، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن.
والإعجاز : جعل الغير عاجزا أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي :
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة |
|
فهل تعجزني بقعة من بقاعها |
أي لا تفوتني ولا تخرج عن مكنتي.
وذكر (فِي الْأَرْضِ) يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله : (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) الهرب من الرجم بالشهب ، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم ، فابتدءوا الإنذار من عذاب الدنيا استنزالا لقومهم.
ويجوز أن يكون (نُعْجِزَ) الأول بمعنى مغالب كقوله تعالى : (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [النحل : ٤٦] أي لا يغلبون قدرتنا ، ويكون (فِي الْأَرْضِ) مقصودا به تعميم الأمكنة كقوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٣١] ، أي في مكان كنتم. والمراد : أنا لا نغلب الله بالقوة. ويكون (نُعْجِزَ) الثاني ، بمعنى الإفلات ولذلك بيّن ب (هَرَباً) ، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق.